لا يمكن للتاريخ أن يظلمَ أحداً.. ومهما غُيبت بعض حقائقه لفترة ليست بالطويلة فحتماً سيأتي اليوم الذي تشرق فيه الحقيقة كشمس ساطعة على الجميع.. وعليه ستتغير نظراتنا وآراؤنا ومواقفنا تجاه أحداث كتبتها أيادٍ مرتعشةٌ وغدت تاريخاً مشوهاً للحقيقة..وهذا بالطبع ما حدث معي وسيحدث مع كل شخص يقع بين يديه هذا الكتاب ل "تقية بن الإمام يحيى" والموسوم ب"يتيمة الأحزان من حوادث الزمان "وهو حسب ما تقول تقية بنت الامام يحيى في مقدمة كتابها: (هذه ذكريات ولا تسجل للأحداث باليوم والشهر والسنة أحداث عشتها ساعة بساعة ورأيتها تجري أمامي، فصولها كتبت بدم الشهداء الأبرار من أبناء أسرتي والصابرين والمصابرين من أبناء وطني..ذكريات جرت أحداثها في وطني اليمن ورسمت خطوطها خارج وطني ورسمها العابثون بتراث بني وطني الذين أوغلوا في نزواتهم التآمرية وعتوا عتوا كبيرا اغتالوا امام القصر الشهيد الامام يحيى بن حميد الدين والدي وغدروا باخواني ونفذوا الى القربى من آل البيت الكرام الطاهرين فالحقوا الخراب والدمار والعسف والظلم والاستبداد بابناء وطني...كل حرف اوردته في ذكرياتي هو الحقيقة بعينها انها شهادتي امام الله حيث لا ينفعُ مال ولا بنون) في حقيقة الامر بالصدفة وجدت هذا الكتاب في يدي ولم اكن انتوي سوى قراءة المقدمة، لكن ولأن ما جاء فيها يجسد معاناة حقيقية لامرأة يمنية حاصرها اليتم والحزن منذ الطفولة، ناهيك عن لغته الراقية المتأدبة والأسلوب السردي الأكثر من رائع، وهذا بالطبع عكس ثقافة عالية ومعرفة غزيرة لدى "تقية".. المنحدرة من أسرة ذات علم وجاه وسلطان وأدب فأبوها وكذا إخوتها كانوا فقهاء دين ولهم باع طويلة في الشعر والأدب، أما جدها من جهة الأم فهو عالم الدين علي بن محمد غمضان الكبسي.. تقية.. الفتاة التي فارقت دار السعادة في سنٍ مبكرة جدا مع أمها بعد أن حصل أبغض الحلال بين والديها، وفي بيت خالها وتحديدا فوق سطوح المنزل تهجت الحروف الأبجدية وحفظت شيئاً يسيراً من كلام الله العظيم، وبين دار السعادة وبيت خالها سارت سنواتها الخمس الاولى ، الى ان استقرت وبشكل تام فيما بعد في دار السعادة بمعية امها.. استأنفت تقية الدراسة وانتقلت من سطح دار خالها الى دار السعادة حيث المربيات والدروس المكثفة، شملها أبوها بعطفه وحنانه وحرص على تعليمها وتأديبها بآداب الإسلام وتعاليمه السمحة وزودها بعدد من الكتب الفقهية وسير الصالحين واختمت القرآن الكريم في السنة السادسة وبدأت فيما بعد بالحفظ تحت إشراف أخيها.. وفي السنة الثالثة عشر من عمرها حدثت كما تقول تقية مفاجأة كبرى عندما جاءها عبدالله بن علي الوزير خاطبا وتحت ضغط الاب والاخوان وافقت على العريس الذي يكبرها بحوالي 17 سنة . لم تكن تعلم تقية ان هذا العريس سيكون فيما بعد شريكاً في قتل أبيها الإمام يحيى ولذلك منحته كل الحب ورعته وصانته في حضوره وغيابه وتحملت فراقه لمدة تسع سنوات وكانت خير زوجة له .. حتى عندما عاد من القاهرة بعد تسع سنوات من الغياب كانت تحمل له كثيرا من العتاب ولم تكن تنتوي العودة إلى منزله لكن ومراعاة لحالته الصحية حيث كان كما تقول تقية يعاني من مرض السل، حيث اشتد عليه المرض وهو في بيتهم فكان لزاما عليها ان تكون بجانبه وترعاه فتناست كل شيء ورافقته الى منزله .. تتساءل تقية وبعد أن انكشف أمر زوجها الذي لم تقصر يوما معه أو تنتقص شيئا من حقوقه (هل يمكن لعاقل في هذه الدنيا ان يتصور ان زوجا يتآمر لقتل والد زوجته ثم يعود يبث لواعج اخلاصه لزوجته ووالدها ويذرف الدموع مدرارا على فقد ضحيته كلها وقائع حقيقية عشت في اتونها واكتويت بنيران حسراتها)
قتل الامام يحيى الشيخ الطاعن بالسن ومعه ثلاثة من اولاده وحفيده الصغير وتعود تقية للتساؤل بحسرة وألم(هل يستحق هذا الامام -الذي جاهد طوال حياته لانتزاع استقلال اليمن وحريته من بين انياب ومخالب القوى الطامعة التي استعمرت معظم البلدان العربية والاسلامية- القتل، كان همه العدل بين رعيته دون سواه خدم شعبه في الليل والنهار بهمة لا يقدر عليها اقوى الشباب ، وحتى في حالات مرضه كان ينزل متكئا على شخصين ليجلس على كرسي او في ظل بناية او شجرة حتى يتمكن المظلوم من مقابلته دون حجاب، بابه مفتوح واتصاله مع الرعية كان مباشرا يستمع ويقرأ شكاوي الناس من الامراء والعمال والحكام والجباة إن ظلموا او افسدوا او تجبروا وكان يؤشر بعلامته للتو والساعة ويأمر بحلها فورا وينفذ من يتولى مراقبة اعمالها فورا ودون ابطاء، ما عدا يوم الجمعة فيذهب الى الصلاة) لم يسمح الزوج الملطخة يداه بدم الإمام كما تقول" تقية" لم يسمح لها بزيارة أهلها في دار السعادة، وحالما سألته لماذا رد عليها انه ينتظر أمراً من الرئيس العراقي جمال جميل.. توالت الأحداث وتسارعت وتيرتها واستطاع الإمام احمد أن يعيد الأمور إلى نصابها، غير أن الأحزان كانت في شوق لمعانقة "تقية " مرة أخرى ففجعت المسكينة بموت أخيها الإمام احمد بن يحيى في 10 سبتمبر 1962م وبايع الناس من بعده الامام البدر الذي وكما تقول" تقية " ابدى نية صادقة بالنهوض باليمن واعلن العديد من الخطوات الاصلاحية الجديدة، لكن ذلك لم يَرُقْ لهم وفي ليلة 26 سبتمبر انفجر الوضع على نحو كارثي.. وفي صبيحة اليوم الثاني تلقت تقية عبر المذياع الخبر الفاجعة المذيع يعلن وبصوت ممتلئ حماساً "ارفع رأسك يا أخي فقد مضى عهد الاستبداد" ويتلو حكماً بتنفيذ عقوبة الإعدام بحق كلٍ من إسماعيل ابن الإمام يحيى وابنه وأخيه وكذا بحق رئيس محكمة الاستئناف الى جانب عدد كبير من العلماء والفقهاء والأعيان، أما المحاكمات كما تذكر" تقية" فقد كانت كلمح البصر.. أعقب ذلك حملة مداهمات لبيوت بيت حميد الدين واعتقالات طالت حتى الاطفال والنساء الى جانب اعمال السلب والنهب. تروي "تقية" بحزن عميق كيف تم مداهمة بيوتهم بانصاف الليالي وترويع الاطفال والنساء، وكيف تم اقتيادهم بطريقة مستفزة ومهينة الى بستان الخير وهو المعتقل الذي اجتمعت فيه اكثر من مائة اسرة من بيت آل حميد الدين وتروي" تقية "بحسرة كيف تم تجويع الاطفال وحرمانهم من الحليب في ذلك المعتقل المهين، وفي هذا الصدد تشكر تقية كثيرا بعض رجالات صنعاء ممن تداعوا الى بستان الخير عقب سماعهم خبر إهانة أسرة بيت حميد الدين تداعوا إلى البستان ببقرات سمان والكثير من الخير وهذه _حسب "تقية"_ نخوة يمنية تثني عليها كثيرا.. تروي "تقية" بقلب متوجع دامٍ حكايات الشتات التي بعثرت ايامهم وقطعت حبل التواصل فيما بينهم وظلوا تائهين لا احد يعلم عن الآخر شيئا، لكن الأدهى والأمر كان حرمانهم من بطائق الهوية وهم الأسرة الضاربة جذورها في أعماق اليمن.. تقول "تقية" وعندما اشتد عليها المرض وكانت مصابة بانزلاق غضروفي اثر سقوطها من على السلالم في المعتقل قرر الطبيب الروسي اجراء علمية جراحية سريعة وعاجلة، وذلك بعد تدخل الصليب الأحمر الدولي وتمت الموافقة على نقلها للعلاج في الخارج.. لكن حدث مالم يكن في حسبان تقية ولا يمكن أن يتصوره أي شخص حيث رفضت السلطات الجديدة منحها جوازت سفر من اجل مغادرة اليمن وتمت عرقلتهم لأسابيع وهم يراوحون حول أنفسهم وبعد رحلة عذاب كما تقول "تقية" سافروا على متن الطائرة اليمنية ولم توضح في حقيقة الامر كيف خرجوا وكانت وجهتهم أثيوبيا إلا أنها ذكرت أن المشكلة الكبيرة واجهتم في مطار اثوبيا حيث منعوا من مغادرة المطار ودخول اسمرا الا بجوازات سفر، وتذكر تقية انه تم انقاذهم في الوقت الضائع عندما جاء احدهم من المملكة يحمل لهم جوازات سفرهم، ولربما دخلوا اسمرا بجوزات سفر سعودية.. في حقيقة الامر ما وجدته في هذا الكتاب جعلني أعيد النظر في أمور كثيرة وأثار لديَّ العديد من علامات الاستفهام...أولا أدهشتني تلك الثقافة العالية التي سُطرت بها الأحداث في هذا الكتاب وأيضا سمو أخلاق هذه الأسرة المتدينة وحبهم للعلم والمعرفة والأدب، فحتى على مستوى تخاطبهم فيما بينهم تلمس لغة راقية إضافة إلى خصال الزهد والورع التي كانوا يتحلون بها جميعا..
ثم كيف مُرِّرَ الكذبُ علينا ممن ظلوا يرددون طوال عقود عديدة أُزعومةَ أن "بيت حميد الدين عمدوا إلى تجهيل الناس" ومعظم من حسبوا علينا ثواراً وأحراراً تلقوا تعليمهم في الخارج؟؟ كانت في زمن الامام اليمن دولة قوية ولها مكانتها بين الامم وكانت لا تحتاج لأمثال الزياني وبن عمر، إلى جانب قوة السياسة الخارجية لدولة الإمام فمن المعروف ان أول علاقات دبلوماسية مع الغرب كانت بتوقيع معاهدة صداقة وتعاون مع الاتحاد السوفيتي في العام 1928م ثم وإن كان الإمام _كما يزعمون_ ظالماً مستبداً ورجعياً، فماذا يسمون أنفسهم وهم يعاملون مواطنين يمنيين أبشع معاملة ويحرمونهم حتى من بطاقة الهوية؟ وكيف سوغوا لأنفسهم سجن ما يقارب من مائة أسرة في معتقل واحد إضافة إلى حرمانهم من التعليم وحتى الأكل والشرب...فأين هي أخلاق الثوار إذاً ؟؟ ولعل مما زاد إعجابي وإكباري بهذه الأسرة عامة وتقية بشكل خاص هي تلك الروح التصالحية التي تمثلت في كلمة (الصفح) عن كل من ظلمهم شردهم وسامهم صنوف العذاب..فتقول تقية ..(لقد تناسيت ما كان فلا أحمل حقدا ولا ضغينة في قلبي، فسامح الله الجميع لقد امتصت الذاكرة كل أحزاننا فلا رواسب ولا أثار)..
تعاطفت كثيرا مع بيت حميد الدين ولعنت التاريخ الذي قرأته في كتب المدرسة عن هذه الاسرة الكريمة.. صوروها لنا على انها رمز للتخلف والرجعية والظلم، وفي حقيقة الامر ليس اغباء ولا اظلم ممن كتب ذلك التاريخ الاعرج بكثير من الكذب والتدليس، كجنوبي ربما مسه ضر ذات الايدي العابثة بكل ما هو جميل أقول انه آن الاوان للثوار الجدد واقصد شباب ثورة التغيير ان يعتذروا لتلك الاسرة ويلغوا شيئا اسمه ثورة 26 سبتمبر الانقلابية على النظام والقانون والبناء والعلم والمعرفة ..