بات من الواضح تشكل قناعة لدى عامة جيراننا الشماليين لاسيما عند أكثر البسطاء منهم وكثير من مثقفيهم وبعض سياسييهم أن الانفصال قادم لا محالة نزولاً على رغبة مواطني حضرموتوالجنوب في العودة لدولتهم السابقة ما قبل يوم 22 مايو الذي مثل خطأ تاريخيًا في التاريخ السياسي للمنطقة باعتراف أمين عام الحزب السياسي الذي ارتكب ذلك الخطأ، والذي يصر أمينه على القيام بدور الحانوتي لجثة معفنة لا يجدي معها تغسيل ولا تحنيط . واليوم نرى الهبة الشعبية التي انطلقت شرارتها من حضرموت تضاعف ذلك الأثر وترسخ تلك القناعة مع الرصيد النضالي منذ سنوات للحراك الذي وإن وصف بالجنوبي إلا أن منطلقه أيضًا أتى من حضرموت وبأياد حضرمية لينزاح في عموم ما كان يسمى بالجنوب العربي لتعود الدعوات لإحياء تلك التسمية والانسلاخ مما لحق بها في فترة متأخرة من الصفة اليمنية ( الجنوب اليمني ) . إن الانعتاق من هذه الصفة وتلك الهوية يمثل قاسمًا مشتركًا بين طرفي العمل السياسي في حضرموت وفي الجنوب وأعني بذلك ( الحراك والعصبة )، والهبة في حضرموت تحديدًا جمعت بين الطرفين نضاليًا لكن لم تجمع بينهما سياسيًا، والسبب في رأيي يعود إلى أن كلا الطرفين مصر على الوقوف عند منتصف الحقيقة وتغافله عن النصف الآخر مع إدراكه الجيد له . إننا إذ ندعو خلق الله للتضحية والصمود وترك تطبيع الحياة العامة فلا بد أن نخلق في نفوسهم وقناعاتهم أفقًا حقيقيًا لنتائج تضحياتهم وعاقبة صبرهم، وأكبر وسيلة لتحقيق ذلك توحيد الجهود وتنسيق الأفكار وإعادة ترتيب البيت الداخلي، فنحن الحضارم لا ينبغي أن نكون قادة في النضال وأتباعًا في السياسة بل يجب، والمرحلة تستدعي ذلك، أن نكون قادة أيضًا في طرحنا السياسي وتصور مستقبله وهو الأمر الذي لم يحدث حتى الآن ونكتفي بسوق الناس للمشي في الشوارع على غير هدى . إنني أفهم أن الهبة الحضرمية ليست مجرد غضبة، وبما أنها ليست مجرد غضبة فأين مشروعها السياسي في إطار الأطروحات التي توضع سواء من قبل المتحاورين في صنعاء أو مشروع الدولة الجنوبية المستقلة، ما زلنا مجرد تابعين إما لهؤلاء أو هؤلاء، وإن فريقًا منا يرى أن الهبة استنساخ آخر للحراك أو تصعيد له وفريقًا آحر يراها حضرمية بحتة وكلاهما ينعق في واديه، ولئن بدا أن الفريق الذي يربط الهبة بالحراك له سيطرته على الشارع فإن الفريق الآخر ( العصبة ) له سيطرته على النفسية الحضرمية في الوطن والمهجر وراغبة في تميزها حتى في عقول وقلوب حضارمة الحراك أنفسهم . الحقيقة أن هناك عدم اتفاق على هوية المشروع السياسي الذي يتوقع أن يكون ثمرة الحراك والهبة معًا وإرهاصات تحققه تلوح في الأفق، وهنا يجب علينا كحضارمة أيًا كان موقعنا أن ينفتح كل منا على النصف الآخر من الحقيقة كما يراه كل طرف منا، فحضارمة الحراك يرون تأجيل الكلام حول هوية المشروع السياسي القادم وتسمية الدولة وعدم إثارته في المرحلة الراهنة متناسين أن الحراكيين الآخرين غير الحضارم قد حسموا هذا الأمر بتسمية الجنوب واستعادة هوية الجنوب العربي السابقة . وهي هوية كانت قد قبلت بها النخب الحضرمية سابقًا سواء في ساحل حضرموت كمحمد عبد القادر بامطرف الذي قال : " إن استقلال الجنوب العربي ووحدته وديمقراطيته وتجمع مصالحه الحيوية يغطي تلك الحواشي التفصيلية الصغرى كوحدة حضرموت وما شابهها من المحاولات المحدودة "، أو في وادي حضرموت كمحمد بن هاشم الذي ألف كتاب الدولة الكثيرية بوصفها جزءًا من حضرموت التي هي بدورها جزء من الجنوب العربي وهو ما قرره كاتب المقدمة لذلك الكتاب وهو محمد علي الجفري مؤسس حزب رابطة أبناء الجنوب العربي . لكن بعد ذلك تغير الواقع على الأرض سياسيًا وثقافيًا بمسئولية تاريخية مشتركة من الجميع، حضارم وجنوبيين، فألغي الجنوب العربي وهويته إلى اليمننة تسمية وهوية، فإذا ما أردنا التنصل من اليمننة فهل بالضرورة بأن نعود أدراجنا مجددًا وبتلقائية لهوية الجنوب العربي ونكون بذلك مجرد أتباع هويات وتسميات، فمع صعود الصوت الحضرمي، على الأقل ثقافيًا، لم يعد ذلك ممكنًا ولا مستساغًا عند طائفة كبيرة ومؤثرة من الحضارم وهو ما تبنته العصبة الحضرمية سياسيًا، وهو ما يليق بنا كحضارمة سواء من حيث أصالة هويتنا في التاريخ أو من حيث رصيدنا النضالي الحاضر حراكًا وهبة . إن العصبة وفكرتها الأصيلة حول الهوية أصبح صوتها عاليًا، وإن تجاهلها أو بالأحرى تجاهل مشروعها الأصيل ثقافيًا وتاريخيًا ونفسيًا هو من الخطورة بمكان، وهو أمر أدركه الطرف الشمالي الذي صار يستمع لها ويتيح لها الظهور الإعلامي، أيًا كانت مقاصده، وهذا حصاد تجاهل مشروعها من الطرف الأقرب الأولى به، وإن صوت العصبة ليصبح أشد قسوة على مشروع الحراكيين كلما تمادى هؤلاء في التجاهل والتنكر لنصف الحقيقة إذ يشعرون بأنهم إزاء إنتاج دولة سيكونون فيها غرباء وتطاردهم من جديد وربما بصورة أشنع تهم سئمنا منها كالمناطقية والانفصالية وربما ما هو أكبر من ذلك . إن الجميع سيخسر وفي مقدمتهم نحن الحضارمة الذين صرنا في نظر الآخرين، شماليين وجنوبيين على السواء، مجموعة من الممزقين المتضاربين إن لم نصل إلى طريق وسط وحل سواء بين حضارمة الحراك والعصبة، وكما أحسنت حضرموت بقيادة النضال يجب أن تحسن أيضًا في قيادة المشروع السياسي الذي ينبغي أن يفرزه ذلك النضال لاسيما أن الشريك الآخر في الوطن لديه مؤشرات للاستماع والاستجابة، وهو في الحقيقة لا يملك إلا ذلك . يأتي في طليعة هؤلاء القائد والمثقف الكبير محمد بن فريد العولقي فهو متجاوب إلى حد كبير مع أطروحات حلحلة قضية الهوية وإعادة النظر فيها في أكثر من مقالة بل قد نراه أميل لمشروع العصبة حول الحضرمة أو التصريح بإعطاء الخيار للحضارمة في الانفراد بمشروعهم مستقبلاً، وهو الأمر الذي يتماوت حضارمة الحراك خجلاً وخداعًا للنفس من قوله والتصريح به بحجة عدم شق الصف بينما لا يرون حرجًا في شق الصف الحضرمي رغم حساسيته بوصف حضرموت قائدة للنضال وأساس صرح المشروع المأمول الذي إذا انهار سينهار على الجميع . إنه من الملاحظ الآن انتقال قيادة الحراك والهبة معًا في حضرموت إلى الفئة المثقفة التي كانت قد أسست من قبل ( تيار مثقفون من أجل جنوب جديد )، ومنذ ذلك الحين لم يخبرونا ما الجديد الذي يبشرون به، مكتفين بمحاضرات وهنا وتصريحات هناك لا تسمن ولا تغني من جوع، ولكن ها قد حان الآن أن تأخذ دورها وقد سلمت لها راية قيادة الحراك والهبة معًا بأن تبرهن على جدة رؤاها وطرحها السياسي لمشروع الدولة المنتظرة . إن مسئوليتها التاريخية الآن تتضاعف مع مقدار ما تطلبه من تضحيات في الشارع، وذلك بأن تضع مشروعًا ينبغي أن يتصف بكونه جديدًا، حسب التزامها، وبكونها جامعًا ليكون على مستوى التحدي وعظمته، فهل لها مشروع سياسي جديد وجامع حقًا أم هي ترفع شعار ( وراي يا رجالة ) وإلى المجهول وحسب الظروف، فإذا كان الأمر كذلك فنحن بإزاء حنبة وطنية بكل المقاييس سياسيًا واجتماعيًا وثقافيًا . لهذا فإنني أرى أن يجتمع مشروع استعادة الدولة مع مشروع إعادة النظر في هوية الدولة وتسميتها في حل وسط يرضي كل الأطراف ( العصبة والجنوبيون وحضارمة الحراك )، نستمده من أطروحة كلا الفريقين، فالتيار يدعو إلى جنوب جديد، والعصبة نفسها تنادي إلى فكرة جديدة بقيام جمهورية عربية متحدة باسم موحد محايد ونظام اتحادي وهوية ثقافية ثنائية تجمع البعدين التاريخيين الحضرمي والجنوبي ومصالح تنموية مشتركة . فبذلك نجد أمامنا جنوبًا جديدًا باسم محايد ونظام اتحادي وهوية ثنائية ومصالح مشتركة ينبغي أن يتبناه مثقفو التيار وقادة الهبة وحضارمة الحراك، وبالمقابل يكف جماعة العصبة عن التنديد بالحراك إعلاميًا بل يلتحمون معه وينسقون معًا، ولا ضير في رأيي من رفع علم الدولة السابقة، والعصبويون فعلوا ذلك من قبل، لأنه لا يعدو سوى رمز للكيان المستقل السابق واستعادته جغرافيًا بسياسة جديدة وهوية مغايرة، وهو ما يقول به الحراكيون بأجمعهم بدلالة أن ذلك العلم يشتمل على المثلث والنجمة اللذين يرمزان للحزب الحاكم سابقًا مع إجماعهم العلني على التنصل منه كتنظيم أحمر وتاريخ أسود . إن على رأس قيادة العصبة وقيادة التيار اللذين جمعتهما الهبة وفرقهما طبيعة المشروع السياسي شخصيتين يتمتعان بثقافة عالية وتاريخ ناصع وكلاهما أعتبره أستاذي وأدين له بالتقدير والمحبة، وهما يدركان تمام الإدراك أنهما لم يعودا رئيسين لمنتديات ثقافية محدودة الأثر كما كانا، بل صارا قطبين لطائفتين من شعب يمر بمرحلة مصيرية حرجة ومفصلية ستؤول بنا إما إلى مكاسب حقيقية أو نتائج كارثية لا ثالث بينهما، فنرجوهما كل الرجاء الجلوس معًا وحلحلة الشقاق بين مكونيهما وكما اجتمعا على الهبة أن يجتمعا على مشروع سياسي جديد وموحد يفوت الفرصة على الآخرين، وينشر بيانًا للناس يجعلهم يثقون فيهما وأنهما يستحقان ما يبذل من عناء وتضحيات وفيه مصلحة لا لحضرموت وحدها بل لشعب الكيان السابق المراد استعادته، وخيرهما الذي يبدأ بالسلام . خلاصة المقال: لا ينبغي أن نكون للنضال قادة وفي السياسة أتباع،، فإن فهمت هذه الفكرة الآن وإلا فقل على حضرموت الوداع .