ينتشرون في المساجد والشوارع والمستشفيات والأسواق وعند أبواب البنوك وفي المطاعم والمدارس والجامعات والمكاتب وفي المطار وعند محطات السيارات وفي أسواق الخضروات والسمك، ويطرقون البيوت والنوافذ والأزقة المنسية، يلونون المدينة بلون خاص من البؤس، ينقرون بأصابعهم زجاج السيارة، أو يلمسون كتفك بهدوء حتى تلتفت فيلحون عليك في الطلب حتى يهتز الريال في جيبك من شدة إلحاحهم، يتشبثون بك، ويحيطونك بشبكة عنكبوتية من مختلف الأعمار والأجناس والأشكال، لا تدري ما إذا كانوا فرادى أو جماعات، يحفظون كثيرا من الدعوات وكثيرا من الشتائم باللهجات المحلية والأجنبية، ملتزمون بلباس الشغل أكثر من غيرهم، يأكلون في أي مكان، ويجلسون في أي مكان حتى لا يمكن التفريق بين لباسهم وأوحالهم. يتكاثرون من جهة البر والبحر، ويشكلون مهرجانا يوميا متجولا من الأشكال والفنون والحيل، لا تدري أتبكي لهم، أم تبكي عليهم، أم تبكي ضدهم، في ضمائرهم لهفة لا تنطفئ إلى المال، وتطفئها مؤقتا -لثانية واحدة فقط- عشرة ريالات، وأحيانا لا يطفئها ألف ريال حسب هيئة المسؤول ووجاهته. من طوح بهم إلى هذه الطريق؟ ومن المسؤول عن تزايدهم؟ وما علاجهم، لم يجب أحد يوما عن هذه الأسئلة، كأن الأمر لا يعني أحدا. يلحون عليك في السؤال بأصوات مختلفة: صوت نسائي رقيق، وصوت مرتعش عجوز، وصوت ما يزال يتأتئ بأول الحروف، وصوت أجش لئيم، وصوت قد بدأ فيه الموت.. غير أن أحدا منهم لم يطأطئ رأسه وهو يسأل، فتعجب من أمر هذا التسول الشامخ العنيد.. لا تؤثر فيهم نظرات التأنيب، لا يتلعثمون، لا يعتذرون عن الوقاحة، لا يضحكون، لا يجلسون سريعا، ولا ينصرفون سريعا، جيوبهم فقط مليئة بالتجاعيد، تشعر أحيانا أنهم يقصدون إهانتك بشدة إلحاحهم، تلتقي بهم في اليوم أكثر من ثلاثين مرة، هم ذاتهم لا يتغيرون، عندما تخاطبهم تعيش لحظة غريبة من التوتر والشفقة والتأفف والإحسان، لحظة خارج كل شعور، وعندما يمسكون بثوبك أو يدك تكاد تسقط من ذلك الإحساس غير المرتب الذي يداهمك فجأة، لأياديهم وخز وحركة تحتاج إلى رجل مرور لضبطها خصوصا عندما يجف عليهم السوق، ويقل المدد. أي مسبحة قذرة لكاهن لئيم انتثرت في أرجاء المدينة؟ أي كاهن يقف في عليائه الوسخة ويوزعهم في كل يوم كجزء من قذارته؟ أي كاهن يباركهم زرافات زرافات لتقبيل الشوارع كل يوم؟ أي كاهن ماجد يرعى مسالكهم وينميها بعناية بالغة؟ لم يتقص أحد أخبارهم، لم يقم أحد بهذه المهمة من المؤسسات الاجتماعية الحكومية والمدنية، ربما لأنهم ليسوا أمرا في غاية الأهمية، يتركون لنا نحن المهمومين همهم ليزيدونا إرهاقا وتعبا، يتركون لنا بؤسهم ليمتصوا منا آخر ما يحمينا من البؤس، وإذا تركتهم بغير عطاء تقرأ في شفاههم التواءة هازئة، التواءة جارحة لا تهجر ذاكرتك ما حييت، حتى بعد أن تفقد الذاكرة!.