اكتشفت في مكتب وزارة التربية والتعليم بالمكلا،لاسيما في قسم التعليم الثانوي أنني الحلقة المفقودة، فقد كانت ثانوية حجر بالجول بحاجة ملحة لمدرس لمادة التاريخ، فرغم الإغراءات المادية للتدريس في هذه المنطقةفإنسمعتها غير المشجعة بوصفها موطن مرض الملاريا حالت دون قبول المدرسين النقلةإليها، وكنت لأسباب نفسية أكثرمنها مادية مهيأً لقبول هذه النقلة. كان الوالد أكثر أفراد لأسرة انقباضا عند سماعه خبر قبولي العمل في حجر فبحكم مهنته سائقاً لسيارة شحن عرف الكثير عن مسالك الطرق في حضرموت ،ودخل بسيارته معظم بلداتها ومدنها، إضافة إلى ذلك ارتبطت حجر لديه بذكريات المرض الذي قدم به منها في احدى رحلاته،لكن هذه الذكرى، وتلك المعرفة لم تصل به إلى طلب التراجع عمّا قررت ، بل شجعني ودعا لي. …..دلنيأولاد الحلال على سيارة الشحن المتوجهة الى حجر، كانت السيارة محملة بأكياس الرز والقمح وبعض الكراتين المغلقة، كان علينا أخذ(مقاعدنا) فوق هذه الأكياس. في مثل هذه الرحلات لاقيمة للوقت، ولاخط سير واضح لها، ولا توقيت محدداًلبداية انطلاقها ،فقد ظللنا لأكثر من ساعة نتنقل في عدد من الأماكن داخل منطقة الشرج في مشهد بدأ لي فيه الركاب كأنهمكائنات بشرية مكملة لحمولة السيارة فالسائق لديه زبائن وحمولة في أماكن متناثرة كان أغربها تحميل خمسمائة (طوبة ) وكان علينا المساعدة (واليد مع اليد تعين). غادرنا منطقة الشرج الساعة الحادية عشرة صباحا.منظر البدو المتسنمين سطح سيارة الشحن فوق كومة من البضائع لم يكن غريبا لسكان مدينة المكلا، والجديد هو أنني لأولمرة أكون مسافراً بهذه الكيفية في رحلة تستغرق ساعات. بعد خروجنا من ترانزيت منطقة الشرج، تنفسنا الصعداء،في حين استمرت عيون زملائي الركاب الفضوليةتلاحقني بنظراتها الخاطفة المستفسرة في سرها عنهذا المسافر الغريب الذي لاتنم ملابسة وحقائبه عن أصول حجرية تقليدية، كنت أقابل هذه العيون الفضولية بصمت هادئ، ونظرات مسالمة،وعندما صار سقفنا السماء، وبينما مايزال الطريق إلى مدرستا بعيدا، طاردتنا الشمس بأشعتها العمودية الحارقة مما اضطرني إلى استخراج (عمامتي)وربطت بها أعلى رأسي ثم كان لي فيها مآرب أخرى فقد استخدمتها لاتقاء الرياح الشديدة القادمة من مقدمة السيارة جراء سرعتها في المناطق المفتوحة، وهكذا صارت الشمس من فوقنا، والرياح من أمامنا،ومن تحتنا الغبار المتصاعد من حمولة السيارة ، ومن حولنا الروائح المنبعثة من أنواع الاسماك المعلقة على جانبي السيارة. بمغادرتنا مدينة (ميفع حجر)أصبح البحر من ورائنا،في تلك الأثناء شعرت بأنني غادرت مدينة المكلا.وللوصول إلى هدفنا كان على سيارتنا تجاوز حسر شديدة الانحدار وصعود عقاب عبر طرق ترابية ضيقة غير معبدة وأحيانا نكون على ضفاف وادي حجر.وعند صعودنا عقبة (حوتة) تذكرت حكاية الوالد الخطيرة مع هذه العقبة عندما كان عائداً من حجر ومعه حمولة من التمر،والحطب، وجذوع النخل وعدد كبير من الركاب وبينما هو في وسط هذه العقبة أدرك أنه فقد السيطرة على السيارة، وأنه لم يعد يستطيع التحكم في حركتها رغم استخدامه الكامل لكابح (بريك) السيارة، والهاند بريك(البريك اليدوي)ولم يعد أمامهكما يقول في تلك الدقائق الصعبةإلا الدعاء إلى الله، وبينما تهوي السيارة نحو المنحدر تمكن من حرفها إلى مرتفع صغير على جانب الطريق جهة الجبل فتوقفت… يصف الوالد هذه (الرحلة ) بأنها أخطر الرحلات في حياته المهنية ،وكان أول إجراء قام به هو الطلب من الركاب الخروج من السيارة والهبوط مشيا على الأقدام إلى أسفل العقبة مع تخفيف حمولة السيارة بأخذهم ما يستطيعون حمله .المهم تمكن الوالد بعونالله من ان الوصول إلى بر الامان . ها نحن الآن وجهاً لوجه أمام عقبة (حوتة) ولكن في ظروف مغايرة وبعد أن تم توسيعها وتهذيبها ومع هذا ظلتأثير الحكاية القديمة يخيم في المكان. كنت أسترق النظر لعلي أرى في العقبة طوق نجاة رحلة الوالد القديمة،ويبدو أن تداخلهيبة المكان مع استدعاءالحكاية هو مبعث هذه الخاطرة، ولا يخفى هنا أن غرض الوالد في الحديث عن بعض تجاربهالتهيئة لمواجهة مصاعب الحياة، والدفع لخوض التجارب.