مع تقديري لأصحاب النوايا الحسنة إلا أن استمرار الوضع الحالي للنيابة العامة كجزء من القضاء هو مهزلة، و مساعي المحامون لإشراكهم في مجلس القضاء مهزلة أكبر، و فكرة إضراب القضاة مهزلة كبرى. تستمد النيابة العامة مشروعية وجودها و طبيعة وظيفتها من تمثيلها للمجتمع وفقاً لنصوص الدستور و القانون، والمجتمع يعبر عن نفسه بإنتخابات تشريعية تمنح لتكتل او لحزب مشروعية تشكيل سلطة تنفيذية "حكومة" يوكل إليها المجتمع حق تمثيله وادارته لمدة محددة، وعلى هذه الحكومة أن تزاول مهامها وفقاً للقانون ولكن بغرض إرضاء المجتمع الذي انتخبها و الذي ستعود إليه ليقيمها بعد انتهاء فترتها الانتخابية لمحاولة كسب اصواته مرة أخرى، والنيابة العامة جزء لا يتجزء من هذه الحكومة الحائزة على ثقة المجتم، وبالرغم من ان النيابة مقيدة بقوانين إلا أنها تندفع ولأسباب شعبية لأن توجه اتهاماتها لأشخاص او لجهات بغرض إرضاء الجمهور، بينما القضاء مهمته فقط تطبيق القانون، حتى وإن خسِر شعبيته بسبب بعض الاحكام التي قد تتعارض مع المزاج العام للشارع الذي تحركه العواطف و الانتماءات المختلفة، بينما القانون و القضاء كجهة تنطق باسمه لا يفترض بهم إلا تطبيق نصوص القانون، والابقاء على النيابة العامة هيكل القضاء و مجلسه هو انتهاك لحيادية القضاء الذي لا يجوز له أن يخاصم أحد او أن يدعي عليه، فلا يحق له أن يكون الخصم و الحكم في الوقت ذاته. وبالمقابل كانت هناك مطالب من المتخصصين والاكاديميين والحقوقيين خلال العقدين الماضيين ترفض وجود وزير العدل كعضو في مجلس القضاء الاعلى، وهي مطالب محقة و منطقية، باعتبار ان وزير العدل عضو في السلطة التنفيذية و انه في الغالب يكون ممثلاً لحزب ٍما هو الذي حصد غالبية مقاعد البرلمان وكان له بموجب المبادئ الدستورية و الديمقراطية بأن يشكل الحكومة من اعضائه و وزير العدل احدهم، فوجود الوزير في مجلس القضاء انتهاك تمارسه السلطة التنفيذية على السلطة القضائية كما انها انتهاك يمارسه الحزبيين على استقلالية و حيادية القضاء الذي يستوجب فيه عدم التحزب، و يدخل المحامون في هذا العبث ليشاركوا في انتهاك استقلالية القضاء وحياديته ويطالبوا بمقعد في مجلسه الاعلى، ومن المعلوم ان الحزبية متاحة للمحامين و ان نقابتهم يدار التنافس فيها بين الاحزاب و التيارات المختلفة وهو امر مشروع وطبيعي ويمارس في العالم كله، لكن من غير المشروع و لا الطبيعي أن يصبح هذا التنافس الحزبي بين المحامين له أثر مباشر على السلطة القضائية وأن يصبح الحزب او التيار الحائز على اغلبية مقاعد مجلس نقابة المحامين هو من يحدد أسم عضو في مجلس القضاء الاعلى، ولا يمكن باي حال أن يصبح الانتهاك الاضافي لاستقلال القضاء و مجلسه هو ماسيجعله محايداً و مستقلاً. وبالنسبة للقضاة عندما يقررون الاضراب و الامتناع عن أداء مهامهم تحت أي مسمى إنما هم يرتكبون جريمة إنكار العدالة، ولا يوجد أي مبرر قد يغير ذلك التوصيف الجنائي، وقد نصت المادة (186) من قانون الجرائم والعقوبات على أن "كل قاضي امتنع عن الحكم يعاقب بالعزل و بالغرامة ويعد متمنعا عن الحكم كل قاضي ابى او توقف عن اصدار حكم بعد تقديم طلب اليه في هذا الشان"، و مسألة إضراب القضاة هي ممارسة عبثية يتصالح فيها القضاة مع فكرة تبعيتهم لسلطة أخرى بل و يوثقون تلك التبعية بصورة مهينة للقضاء وللدستور -أي دستور كان- لأن إضرابهم بالاضافة لانه انكاراً للعدالة وتعطيلاً لمصالح العامة و لا يستفيد منه إلا الظالم الذي لن يجد ضحيته من ينصفه و يعيد إليه حقه، هم ايضاً يطالبون بمايفترض بأنها حقوقهم من جهات أخرى لا سلطان لهذه الجهات عليهم فلا تملك لهم ضراً ولا نفعا، ويتناسى من يمارسون الاضراب من السادة القضاة من ان انصافهم بايديهم وحدهم كما ان انصاف العامة بيد القضاة انفسهم، وبما ان مايطالبون بها هي حقوقهم المشروعة فكان الاجدر بهم ان يتقدموا بدعوى تتضمن اسانيدهم و طالباتهم الى زميلهم القاضي المختص في هذا النوع من المظالم والطلبات، فإن كانت فعلاً مشروعة فما على زميلهم القاضي المختص الا الحكم بها و اجبار الجهات المختصة على تنفيذها و في حال امتنعت الجهات عن التنفيذ بإمكانهم الامر بالقبض على من رفضها واحالته للمحاكمة ولو غيابياً مهما كان موقعه في الدولة باعتباره مجرماً امتنع عن تنفيذ احكام القضاء، ومن يعتقد بأن هذا المسلك لا يتسم بالواقعية فهو مخطئ، وسوف استشهد بإحدى السوابق القضائية عندما حكمت الدائرة الادارية في المحكمة العليا في دعوى تقدم بها عدد من القضاة ضد مجلس القضاء الاعلى ذاته و بعد ان اقرت الدائرة المذكورة باختصاصها في هذا النوع من القضايا حكمت لصالح القضاة المدعون ضد مجلس القضاء الاعلى. سادتنا القضاة، زملاؤنا المحامون و اعضاء النيابة العامة، استقلال القضاء مطلبنا جميعاً، ومازال القضاء منتهك و متجرح، وانتم لا تداوونه بوسائلكم و مطالبكم سالفة الذِكر، إنما أنتم تفاقمون جروحه و تفتحون اخرى هي أكثر مضرة، ومن يستفيد من عدم استقلال القضاء مرة سوف يتجرع الاذى بعد ذلك ألف مرة. وبهذه الطريقة لن يكون لنا "قضاء" مستقل يحكمه قانون، بل سنواجه "قدر" خبط عشواء تحكمه الرغبات فقط.