في مشهد من الفيلم العربي(هيَ فوضى..؟) الذي يتناول موضوع الفساد وتجاوزات الأجهزة الأمنية في مصر للمخرجين/يوسف شاهين وخالد يوسف، تقول - مشددة - الممثلة المصرية/هالة صدقي(مديرة المدرسة) لإحدى المعلمات "إذا تقسم وتجزأ التاريخ تقسمت وتجزأت الجغرافيا، وإذا تقسمت وتجزأت الجغرافيا تقسم وتجزأ التاريخ"، فالتاريخ والجغرافيا قرينان، الشعب من يسطر التاريخ والجغرافيا تُسقطه، الشعب من يُشكل الجغرافيا والتاريخ يحكي. على أرضية لعبة المونوبولي (MONOPOLY) يتنافس اللاعبون على جمع أكبر قدر ممكن من الثروة والممتلكات تبعًا لقواعد معينة ومحددة عن طريق بيع وشراء العقارات وتأجيرها أثناء تحركهم وتنقلهم على لوحة اللعب حسب نتيجة رمي النرد، مونوبولي تعني بالعربية(الاحتكار)، سيطرة بائع على سلعة معينة. في مقطع من برنامج وثائقي يستعرض حياة الأسود في البراري على قناة Animal Planet، جلس الأسد بهدوء تحت شجرة بقي فيها القليل من الأغصان اليابسة لتهبه بعض الظل، تمدد بتراخي وبدأ يمتط ويزأر، فقد أهلكه الشعور بالجوع، بينما كانت اللبوة(إحدى الزوجات) مختبئة خلف الحشائش اليابسة تُراقب قطيع الجواميس من بعيد لبعيد بخبث وحذر شديدين وكأنها غير مهتمة حتى لا يُكشف أمرها، مُستغلة اتجاه عكس الرياح ولون شعرها القريب من لون تراب البراري لتضليل فريستها، فجأة ودون سابق إنذار تعلن عن حملة بمساعدة أشبالها، لتشن هجومًا بمعيتهم على القطيع، بعدما وضعت عدة اعتبارات من بينها تحديد جاموس رضيع يفتقد لسلاحه الوحيد(القرون)، من السهل أن تحظى به بدون مقاومة طويلة وعراك قد يلحق بها جروح عميقة من صنع قرون أمه إذا أدركته قبلًا، وبعد ترقب وزحف طويلين تطارد الرضيع لمسافة قريبة، فتنقض عليه وتحاول أن تخنقه بالإطباق على أنفه، بينما يقوم أحد الأشبال بتثبيت الرضيع بمخالبه من الخلف، وهناك من يحاول نهش لحم جانبيه وفخذيه من الجهتين، بذلك يسقط ويُعلن عن وفاة جاموس رضيع مسكين لم يكتب له الحياة والأم تشاهد بحسرة ابنها الذي ضاع بلمح البصر من وسط القطيع أو لحاقًا به عند الفرار، قد تتملك الأم الشجاعة لتدافع عنه، ولكن الخوف يقف حائلًا من جهة والحال الميئوس لابنها المنهك من جهة أخرى. دقائق قليلة من سقوط الفريسة، تنتظر اللبوة وأشبالها بكل احترام وتقدير أن يأتي الأسد ليفتتح الوليمة على شرفه ومن بعدها يُسمح للبقية بأخذ حصصهم، وبعد أن تأخذ الأسود مع عائلاها من لبوات وأشبال ما يُرضي غرورها ويُشبع بطونها، تُغادر المائدة ليتوارد عليها تباعًا الضباع وبنات آواى والثعالب والصقور و..، وآخر المدعوين البكتيريا التي تقوم بالتحليل، وفي الأخير يبقى العظام، لتصدر البراري بيان نعي أن هناك كانت جثة. قد يتملك الأسود شعور بالجشع، وتُغير رأيها في آخر لحظة من الشبع، وتعود مرة أخرى لتأخذ ما تبقى من جثة الجاموس إلى القرب من مكان تجمع أفراد عائلتها، وبهذا تمنع أنانيتها بأن يحظى أحد غيرها بالباقي. في مقطع من مسلسل كرتوني للأطفال، بدأت كرة الثلج صغيرة جدًا وبداخلها أحدهم على رأس الجبل، وبدفشة واحدة بسيطة من يد آخر راحت تتدحرج من الأعلى، وفي طريقها إلى الأسفل لم تنسى أن تكبر شيئًا فشيئًا، وأخذت تتضخم، لم تجد ما ومن يوقفها أو حتى يحاول ذلك، هي الآن في غاية الخطورة تُنهي كل ما ومن تجده أمامها وتُهدد ما ومن حولها في اتجاه اندفاعها، ما ومن يقف أمامها مُعرض للسحق والتدمير، تصطدم كرة الثلج بصخرة كبيرة ولكنها لا تتوقف، وتُتابع الهرولة لترتطم بجذع شجرة الصنوبر، هناك كانت نهاية الكارثة المتوجهة نحو القرية، التي كانت مهددة بخطر لا محال، فالطريق طويل إلى القرية والحجم في تزايد مستمر دون توقف وسرعة الاندفاع لا تناقش حتى عوامل وعناصر الطبيعة الرافضة. أكبر حلم قد يغمر أحدنا في ظل مجموعة الظروف الضنكة التي نمر بها خلال السنوات الأخيرة، هو امتلاك بيت يحتوي الأسرة، ليعفي عنها عذاب التنقل متى ما فكر صاحب البيت بزيادة الإيجار، أو طموح كبر في حلم رجل عجوز بسيط، يريد أن يسكن ابنته في بيت صغير مع زوجها. وبعضهم ساعيًا لذلك، قد يحصل في أحد العروض الموسمية المشكوك بها وبشروطها المُنهكة بيتًا في القرية السياحية البعيدة جدًا من وسط المدينة، بعد أن خسر ما خسر من اتصالات ومتابعات ورشاوى، وآخر موظف بدأ يُخرج منذ شهور نصف راتبه الشهري المتواضع لأحد القائمين على مشروع إسكان خاص، يعرف جيدًا مقر مكتبه الخالي من الأثاث سوى كرسي وطاولة، ليحصل بعد سنين من دفع الأقساط على شقة صغيرة في إحدى البنايات المتشابهة في المشروع، وقد يتوه عنها، وربما قبل التسليم يتراجع المشرف عن كلامه أو قد يتوقف المقاول عن العمل ويدخل الموظف في دهاليز البحث عن حقه المادي، في بداية الحارة تجلس امرأة عجوز تحمل الراديو التي تأمل أن يوافيها بخبر عن صاحب شركة الإعمار الذي هرب بمالها المدخر من مراسلات ابنها في الغربة، فقد غادر البلاد بعد أن أعلن فشل المشروع، وكأنه فص ملح وذاب. بين الحد الأدنى من قواعد لعبة المونوبولي والحد الأعلى من قوانين الغاب والبراري، على مدينة عدن(الغنيمة) يتنافس مجموعة من الفاسدين والمتنفذين بجمع أكبر قدر ممكن من الثروة وامتلاك الأراضي، منتهزين فرصة الانفلات الأمني الحالي، تحت غطاء الدولة الغائبة والحكومة المتواطئة، بركنهم القانون جانبًا واستخدامهم لغة السلطة والقوة بالاستيلاء على ما ليس لهم، هي أراضي يمتلكها الشعب، الغريب تبرير بعضهم لبسطهم عليها بحجة تبنيهم مشاريع تنموية واقتصادية وهمية دون وجه حق أو صك قانوني أو إتباع مشرع، ليشيدونها على معالم عتيقة وأثار قديمة ومتنفسات طبيعية تحكي تاريخ شعب أصيل وعريق، وفي بعض الأحيان قد يبيعونها أو يأجرونها لمن سيعيث فيها ومنها الفساد والدمار حسب المصالح والفوائد المستقبلية المرجوة، فالأراضي في عدن صارت حكر على بعض الناهبين والمرتزقة، وليست للعامة. وعلى الرغم من كل المناشدات والنداءات والرسائل العاجلة والوقفات الاحتجاجية من قبل المهتمين والناشطين الحقوقيين والإعلاميين والعامة إلا أن أعمال الحفريات والبناء مستمرة أسفل الجدار التركي الحجري الذي تم بناؤه في عهد دولة أوسان وعمره من عمر الصهاريج، وما زالت الفلل والعمارات الكبيرة تُشيد حول محيط ساعة ليتل بن الأخت الصغرى لبج بن في لندن، مما أدى إلى حجبها على أبناء عدن والزائرين القادمين إلى ميناء، يتعرض بناؤها للإهمال حتى توقفت عن العمل وإصدار ذلك الصوت الذي يأنس به القريبون، فسقط قرص ساعتها، كما يتعرض مسرح إتحاد نقابات العمال لتدمير واسع النطاق من قبل عناصر مسلحة، يقومون ببناء مساكن أهليه بداخله، وأعمال التخريب والسرقة التي طالت مبنى الإتحاد من قبلها، يُعتبر المسرح من أقدم المسارح في عدن، وقد تم بناؤه بشكل مشابه للمسارح الرومانية القديمة، لعب دوراً بارزا في الحياة النقابية والعمالية وأقيم فيه عدد من الفعاليات الاجتماعات والانتخابات التأسيسية لنقابات العمال في عدن، وقبلًا تعرض عدد من المساجد القديمة التي يعود تاريخها إلى مئات السنين ك(أبان) و(الهاشمي) و(جوهر) للهدم لبنائها من جديد، مما أضاع صورتها التاريخية والمعمارية القديمة، لتظهر واجهاتها كواجهات كنائس كاتدرائية، وكذلك الكنائس التي أهملت وبعضها هُدم، وتعرض بوابة عدن ومعبد الفرس للهدم والتشويه، إن ما يحدث هو محاولة لكتابة تاريخ جديد، لمحو شخصية وطمس هوية مدينة عدن. وما زالت الدعاوى القضائية تُقام والشكاوي القانونية تُقدم للجهات المختصة لاستصدار أوامر بإيقاف البناء الذي تقوم به شركة وهمية لا مالك حقيقي لها في المتنفس الطبيعي الواقع بين مديريتي خور مكسر وصيرة والذي صرفه النظام المخلوع لأحد المتنفذين بمحضر بيع وليس عقد قانوني، لما في ذلك من ضرر سيلحق ببقية المتنفسات في المدينة، كل ذلك في ظل تقاعس وصمت مطبق من قبل الجهات المعنية، دون أي تدخل من قبل السلطة المحلية أو الأجهزة الأمنية. عدن الأرض والإنسان تتعرض لكم هائل من الانتهاكات والإلغاء، تمر بمسلسل نهب مستمر وممنهج, ما أوصلنا إلى الخوف على مساكننا الشخصية التي سنجد أنفسنا يوماً خارجها، والتساؤل، هل سنجد بقعة أرض صغيرة في مدينة عدن لتتزاحم تحتها جثثنا بعد موتنا؟! ما جعلنا نعلن عدن مدينة منهوبة، ونطالب بجعلها محمية طبيعية.. تاريخية..