مَن بشير الكويتي.. ومَن صبرية؟ أنور الرفاعي: أبو صبرية من بحّارة القطامي وعاشق المكلا
مخضرمون عاشوا فترتي ما قبل النفط وما بعده، فقاسوا من الاثنتين وذاقوا حلاوتهما، عملوا وجاهدوا وتدرجوا، رجالاً ونساء، الى ان حققوا الطموح أو بعضاً منه، ومهما اختلفت مهنهم وظروفهم، فإن قاسما مشتركا يجمعهم هو الحنين إلى الأيام الخوالي. القبس شاركت عدداً من هؤلاء الأفاضل والفاضلات في هذه الاستكانة. مدينة المكلا عاصمة محافظة حضرموت تطل على البحر العربي، وتتميز بطابع سياحي استثماري يجذب المستثمرين والسياح، كلمة المكلا في اللغة العربية تعني «المرسى» أو الميناء، وأول من أطلق عليها الاسم الكساديون في فترة الدولة الكسادية، واطلق عليها الكثير من الاسماء مثل: الخيصة – وبندر عمر، وظهرت المدينة فعلياً في مطلع القرن الحادي عشر الميلادي. حين بدأ الناس في تلك الفترة باستخدامها كميناء لتنزيل البضائع سنة 1035م بناها الملك المظفر الرسولي واستخدمها كميناء لمصلحة الدولة الرسولية، وجعلها مدينة حصينة، اذ قام ببناء الحصون حولها والاسوار الضخمة لحمايتها، كانت تسمى قديماً ب«الخيصة» وازدادت المكلا شهرة ومكانة عندما اتخذتها السلطنة الحضرمية القعيطية عاصمة لها في سنة 1915م، والمكلا مدينة متحضرة منفتحة شاركت في ارسال بعثات الدعوة الإسلامية في آسيا، وهم عملوا في التجارة وصيد الأسماك، وشواطئها من أجمل شواطئ الجزيرة العربية، وتتمتع بسحر خاص يجذبك لتكرار الزيارة من جديد، ومن المكلا تحمل الأسماك ومواشي الصومال والعسل، والزهور، وفيها أول مقهى من عام 1923 (مقهى خميس) كانت المدينة بمينائها ملجأ وملاذا للكثير من التجار، وهي مدينة الفن والرسم، جاءها أنور علام مع صديقه السلطان عوض بن عمر القعيطي، لانه كان محترفاً في الزخارف والعكوف الهندية، والذي تتلمذ على يديه الفنان أحمد جمعة خان وشقيقه محمد، وكل ما نقوله ان المدينة كانت تعد ميناء مهماً ومرفأ تغشاه السفن الشراعية من كل صوب، وكانت فرضتها مهوى أفئدة الربابنة والبحارة من الهند وشرق أفريقيا ودول الخليج العربي، والذات من أهل عمانوالكويت، ولكن الكويتيين هم أكثر الوافدين إليها يأتونها في سفنهم الشراعية من الشرق والغرب حاملين معهم التمور والكعك والأواني الفخارية وكل ما يحتاجونه من بضائع حضرمية متميزة كالعسل المشهور عندهم.. الخ. وهناك حدث من الأحداث التي تجري للناس تصلح لأن تكون روايات، وموضوعنا اليوم عن احدى هذه الروايات، وهي بشير أبو صبرية حيث تعتبر قصته رواية كويتية حقيقية جميلة السرد. التقيت رئيس فريق الموروث الكويتي والباحث في التراث الكويتي أنور السيد محمد الرفاعي، فقال: عاش أبو صبرية في المكلا قرابة أربعة عقود منذ منتصف الثلاثينات من القرن العشرين الى حين وفاته منتصف الستينات وكان احد بحارة آل القطامي الاسرة المتميزة في قيادة السفن الشراعية، ولقد كان رجالهم يشجعون بعضهم بعضا، ويعلمون اولادهم واخوانهم، وكان منهم النوخذة عيسى عبد الوهاب القطامي صاحب الكتاب المشهور «دليل المحتار في علم البحار» 1916، ولكنه لم يطبعه الا في عام 1924 واشتهر منهم النوخذة عبد الوهاب القطامي واصبح من كبار نواخذة السفر. قال ابو فهد: عمل بشير (ابو صبرية) على احدى سفن آل القطامي بحاراً، وكان في فترة العشرينات والثلاثينات يزور مدينة المكلا عدة مرات في رحلات سفره، لكنه في السفرة الاخيرة قرر ان يتخذ من المكلا مستقرا له، وبالفعل عاش بين اهلها دون ان يغادرها الى حين وفاته عام 1966، كان رحمه يتمتع بسمعة طيبة بين اهالي المكلا عاصمة الدولة القعيطية التي كانت تمتلك الكثير من مقومات التمدن والحياة الاجتماعية والاقتصادية وكان الوافد اليها يشعر بالامن والامان. فالوافد يحب الاستقرار فيها خصوصا اهل الكويتوعمان لا سيما انها كانت سوقا تجارية رائجة ومجتمعا راقيا الى حد ما. ولان المدينة بمينائها كانت ملجأ للبحارة والتجار وفيها تنوع من البشر. اضاف الرفاعي: بشير الكويتي من هؤلاء الناس، ويقال ان استقراره النهائي بالمكلا كان في منتصف الثلاثينات حسبما افادت اقوال بعض من عاصروه. وقال: لقد كان بشير (ابو صبرية) ذا قامة ضخمة ومنكبين عريضين وطاقة مهولة.. لكنه كان انطوائياً يعيش حالة نفسية تجعله يؤثر الوحدة، انما كان محبوباً من الناس بطيبته وهدوئه وطاعته لربه، كان مؤدياً للصلاة في جماعة ومستقيما اخلاقياً، وقد وصفه اهل المكلا بأنه كان رجلاً عملاقاً قوي البنية، يرتدي الملابس الكويتية والقميص ذا الاكمام الطويلة الواسعة على غير عادة، ويحمل على كتفيه لفتين ضخمتين يعجز الانسان عن حملهما على الدوام كما كان يفعل بشير. اضاف الرفاعي الباحث في التراث الكويتي: كان رحمه الله كثير الارتياد لاماكن البحارة على سواحل المكلا، وبالذات قبالة مسجد الروضة في البقعة التي كانت تتم فيها صيانة السفن الجانحة من اجل اصلاحها، وهذا المكان كان يسميه اهالي حضرموت الميناء (فرضة) وبشير يمكث طويلاً في هذه الاماكن، ويذكر عنه انه لم يكن منقطعاً عن اهله في الكويت، بل كان متواصلاً معهم عبر النواخذة وربانية البحر الكويتيين الذين حرص كثير منهم على زيارته والاطمئنان عليه، وكانوا يحملون اليه حوالات مالية مبعوثة من اهله في الكويت والتي لم يكن (بشير) يعتمد عليها بشكل كلي في معيشته، وانما كان يحيا بين ابناء البلد الذين لم يتركوه محتاجاً ولا معوزا،ً فالكل كان يرحمه بصور شتى وبدافع من الحب والمودة، خصوصا السيد علي الصبيح المدير السابق لادارة المرور في فترة الخمسينات وهو شخصية كويتية معروفة بحبها لاهل حضرموت وبزياراته المتواصلة للمكلا. اضاف: من صفاته الهدوء والطاعة، وكان عابداً تقياً مستقيماً محبا للصلاة في جماعة، وكونه بسيطاً نظيفا حريصا على العناية بنفسه رغم انطوائيته وقامته الضخمة التي حباه الله تعالى بها، والتي كثيرا ما يستخدمها من يتصفون بمثلها في البطش والتعدي على الآخرين. ومن سجاياه رغم فقره انه حينما يحصل على مال كان كرمه للجميع. محاولة فاشلة قال انور الرفاعي: ومما رواه لنا العم احمد سالم باصديق، وهو من اهالي المكلا ومعاصري بشير ابوصبرية رحمه الله، وطايق في روايته وعدة روايات اخرى حول حادثة محاولة اعادة بشير الى الكويت يقول: لقد ارسل اهله في الكويت البحارة الكويتيين لإعادته الى بلده الكويت بالقوة، فجاء هؤلاء البحارة وربطوه واخذوه بالقوة وحملوه الى المركب، وحينما قفل (غادر) مغادراً المكلا وابتعد مسافة عن البر، فوجئ البحارة على متن المركب بأن بشير تمكن من الافلات والفكاك من قيد الحبال، ثم قفز الى البحر عائداً الى الشاطئ (المكلا) سباحة وسط دهشتهم ودهشة الناس على الساحل الذين كانوا يراقبون الموقف. وتابع الرفاعي: وكما افاد العم سعيد عوض باحمران، احد الذين شاهدوا الحادثة، أن البحارة عادوا ودخلوا في صراع مع بشير لاخذه بالقوة من جديد، لكن بعضا من اعيان ووجهاء حي البلاد اعترضوا طريقهم ليستفهموا ما الدافع لهذا العنف الشبيه بالاختطاف، وما اذا كان بشير هارباً من مشكلة او حكم قضائي او مطلوب في قضية ما، لكن البحارة افادوا بأن كل ما في الامر ان اهله هم من ارسلونا لاحضاره. وعندما رأوا من الشعبية والترحاب به في المكلا، قفلوا عائدين الى الكويت من دون بشير. طرائف أبو صبرية اضاف: انه كان مدمناً على تناول السمن العداني (البلدي)، الذي كان يجلب من الصومال، لدرجة ان علبة السمن لا تفارقه، واشتهر بطبخه بنفسه واكله الطيب. كان لا يمر اسبوع الا ويشتري ديكاً يضعه على احد كتفيه بطريقة طريفة، ويقوم باشعال النار قبالة مسجد الروضة ويطبخه، ورائحة طبخه الطيب تملأ ارجاء الحي، وقد اشتهر بنظافة مظهره وملابسه لدرجة انه لا يسلم على احد بكفه ابداً بل يكتفي بعباراته المعهودة، وتسعده كنية (ابو صبرية). ولا يعلم احد من تكون هذه؟ هل هي ابنته؟ كذلك لا احد يعلم الاسم الكامل لبشير او صبرية؟؟ كل ما نعرفه عن بشير انه من بحارة اسرة آل القطامي في الكويت. مرضه واضاف: اصيب بشلل في اطرافه السفلى، يقول العم فرج سعيد مسونق عن مرضه: لما أُصيب بشير بالشلل كنت انا من الاربعة الذين حملناه الى غرفة له في مسجد الروضة لضخامته وكبر بنتيه. وضع له سرير كبير خصيصاً قياسه 8، والمعروف العادي آنذاك كان قياس 4، ثم اصيب بالعمى في أواخر ايامه، وقيل بسبب كثرة تناوله للسمن العداني البلدي». في عام 1966، قبل نهاية الدولة القعيطية بعام واحد، توفي المواطن الكويتي بشير أبو صبرية، وقام أهل المكلا ومنهم: سالم با محيسون الملقب بالروكبي الذي كان متكفلاً برعايته، وخميس بن جابر رحمه الله، وعبدالله عمر بامخرمه المعروفون بالخير والكرم، بغسله وتكفينه والصلاة عليه ودفنه في مقبرة الشيخ يعقوب بن يوسف، ويقال انه بعد وفاته جاءه مبلغ من المال من الكويت، قيل انها بمنزلة مكافأة للناس الذين تكفلوا بدفنه في المكلا، حيث جرى العرف في الكويت ان الانسان يجب ان يدفن ويكفن ويجهز من ماله الخاص، ويقولون ان هذا المال تصدقوا به عن روحه، ويقال ايضا انه تم توزيعه على من قاموا برعايته. وكان يوم وفاته يوم حزن على اهالي المكلا، ووصفوه: «فقدنا رجلاً محبوباً ومميزاً بشكله وسلوكه المستقيم». عاش بينهم لين الجانب، قريبا الى قلوبهم، مندمجاً في نسيج مجتمعهم، وترك أثراً طيباً في تاريخ المدينة. وبالتأكيد لن يُنسى ذلك الرجل الكويتي الفريد في شكله، واسلوب حياته، وأنه رسم صورة مشرفة عن أهل الكويت، لكنه سيبقى في ذاكرة أهل بندر يعقوب، الذين أحبوه وأكرموه وأحب قربهم. قائمة بأسماء أبرز الشخصيات التي أدلت بمعلومات عنه: 1 – م. جلال عوض محقوص (مهتم بتاريخ المكلا). 2 – أحمد سالم با صديق. 3 – فرج سعيد مسوتق. 4 – سالم با محيسون (الروكبي). 5 – عمر عبدالرحمن العماري. 6 – م. صالح علي با عسشن. 7 – سعيد بوسبعة. 8 – إبراهيم الصومالي. 9 – وشخصيات اخرى تطابقت روايتهم مع من سبقهم. 10 – بديعة عوض بن جبير. قال الرفاعي: كل من يعرف عنه شيئاً، او سمع عن هذا الكويتي (ابوصبرية) الذي عاش منذ منتصف الثلاثينات حتى وفاته منتصف الستينات، ان يزودنا عن حياته وعن اهله لكي ندون سيرته لابنائنا والاجيال القادمة. وقال: هل هو متزوج؟ ومن هي صبرية.. زوجته او ابنته او حبيبته؟ وبعض الروايات تقول: ان بشير عشق احدى بنات المكلا، ولكنه لم يتزوجها، لان من عادة اهل المكلا انهم لا يزوجون بناتهم لغير اهاليهم، ورواية تقول ان بشير عُمل له سحراً واستقر هناك، ونحن ننقل الرواية ولا تصدقها.