قبل أن يخلق الله سبحانه وتعالى أبانا آدم عليه السلام جمع الملائكة رضوان الله عليهم وأخبرهم قائلاً "إني جاعلٌ في الأرض خليفة"، ولأن الملائكة كانت لها تجربة سابقة مع الجن الذين سكنوا الأرض قبلنا وإرتكبوا الفظائع والجرائم والمنكرات كان جوابهم الأشبه بالتساؤل "أتجعل فيها من يُفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نُسبح بحمدك ونقدس لك" إلا أن الله جل جلاله الذي سبق علمه رد عليهم قائلاً "إني أعلم ما لا تعلمون" ومن هنا كانت بداية خلق الإنسان والغرض الأساسي منه وهو العبادة والعمل. وقد قرن الله سبحانه وتعالى العمل والعلم في أكثر من موضع حيث يوضح لنا القرآن الكريم إمكانية قيام البشر بإنجازاتٍ كبيرة بواسطة العلم والعمل ولعل من أهمها السفر إلى وعبر الفضاء حيث يقول جل وعلا شأنه "يا معشر الجن والإنس إن إستطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات والأرض فانفذوا لاتنفذون إلا بسلطان"، كما أن الرسول الأعظم صلوات الله وسلامه عليه قد حثنا على العمل وعلى طلب العلم حيث يقول صلى الله عليه وسلم "طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة" ويقول "إطلبوا العلم ولو في الصين" ويقول "علموا أولادكم فإنهم خلقوا لزمن غير زمنكم" كما قال "إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة، فإن إستطاع ألا تقوم حتى يغرسها فليغرسها". ونظراً لما للعمل والعلم من أهمية إستثنائية، فقد أولى أجدادنا اليمانيون الأوائل هذه القضية جلً إهتمامهم وتعمقوا فيهما ولذلك فقد تمكنوا من إتيان المعجزات وشيدوا واحدة من أعظم حضارات الأرض إن لم تكن أعظمها على الإطلاق وسر عظمة حضارتنا أن اليمانيون الأوائل لم يستسلموا لصعوبة منطقتهم الجغرافية وأنها منطقة صحراوية جافة وجبلية خشنة وساحلية مقفرة ولذلك فقد درسوا طبوغرافية منطقتهم بإمعان وتمكنوا بعدها من بناء أول قصر وناطحة سحاب يُشّيد على مستوى العالم وهو قصر غمدان الذي ما تزال آثاره باقية في صنعاء حتى الآن وهذا القصر الذي بُني قبل 3 آلاف عام كان مكوناً من عشرين طابقاً وكان يوجد في كل طابق أربعة تماثيل ذهبية مجوفة لأسود مفترسة كما كان سقف الطابق الأخير زجاجي شفاف يسمح للجالس فيه برؤية السماء وما فيها من سحاب وطيور.. ولعل أعظم وأكبر إنجازات اليمانيين القدماء هو أنهم أوجدوا أسباب الحضارة قبل أن يوجدوا الحضارة نفسها وقد تمثل ذلك فيما يعرف حالياً بإسم الهندسة المائية وهو ما جعلها تتفوق على غيرها من الحضارات في هذا المضمار والمعروف تاريخياً أن الحضارات الرئيسية القديمة قامت على ضفاف الأنهار والبحيرات مثل الحضارة البابلية التي قامت على ضفاف نهري دجلة والفرات والحضارة الفرعونية التي قامت على ضفاف نهر النيل إلا الحضارة اليمنية التي قامت أساساً في الصحراء حيث أبدع اليمانيون الأوائل في تحدي طبيعتهم القاسية وتمكنوا من إبتكار الهندسة المائية حيث شيدوا السدود التخزينية والسدود التحويلية وقنوات الري وحجز مياه الأمطار وبذلك تمكنوا من تحويل الصحراء إلى جنة كانت آية لكل العالم القديم الذي أطلق عليها إسم العربية السعيدة "Arabia Felix" ومن ثم جعلوا منها مركزاً رئيسياً للتجارة على مستوى العالم الأمر الذي جعل من اليمن واحدة من أهم الدول والحضارات على مستوى العالم ليمجدها الله سبحانه وتعالى بذكرها في القرآن الكريم وليُطلق إسمها بعد ذلك على واحدة من سور القرآن الكريم وهي سورة سبأ وقد قال سبحانه جل شأنه "لقد كان لسبأٍ في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق ربكم و أشكروا له بلدةًُ طيبةٌ وربًُ غفور". ولم يتوقف إعجاز اليمانيين عند هذا الحد بل إنهم وبفضل تفانيهم في العلم والعمل قاموا بالنحت في الصخور اليابسة وصنعوا من تلك الجبال الجرداء الصماء مدرجات خضراء تأسر الألباب ، كما كان لهم سبق بناء واحدة من أقدم 3 عواصم على مستوى العالم وهي مدينة صنعاء وبنوا قصورها الحجرية الشهيرة التي ذكرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الخندق وهو يكسر الصخرة أثناء حفر الخندق وبنوا أيضاً القصور الطينية في شبام حضرموت وأتقنوا بناء قنوات حجز مياه الأمطار وتخفيف أضرار السيول على المدن مثل صهاريج عدن. قد يظن البعض أن ما قام به اليمانيين الأوائل من إعجاز وإبداع وعمل عظيم أمرٌ سهلٌ وهينٌ وبسيط لكن الحقيقة أنه لم يكن كذلك أبداً وإنما كان عملٌ جاد وشاق ودؤوب قامت به أجيالٌ متعاقبة.. فما أحوجنا نحن في يمننا اليوم أن نستلهم تراث وإبداع أجدادنا وأن نحاول أن ننجز ونبدع على الأقل في أعمالنا اليومية وأن نجعل من الصعاب التي نواجهها محطات للنجاح والتفوق كي نعوض ما فاتنا لأنه لا يجوز لنا نحن اليمانيين أن نكون مجرد شعب يعيش على الهامش وغير قادر على الإنتاج والإبداع، فالله سبحانه وتعالى خلقنا نحن اليمانيين بالذات لنكون من الشعوب التي لها دور مهم وأساسي في هذه الحياة منذ بدء الخليقة وحتى الآن.. فنحن من علم العالم بناء القصور وناطحات السحاب ونحن من علم العالم الهندسة المائية التي إنتشرت في كل اليمن القديم، ونحن من علم العالم المصافحة بعد أن كان الناس يتناطحون بأنوفهم كالبهائم، ونحن أول من علم العالم الترحيب بالضيف عندما كان ملكنا سيف بن ذي يزن أول من يقول لضيوفه "حللتم أهلاً ونزلتم سهلاً"، ونحن أصل العرب وأول من تحدث العربية التي أصبحت فيما بعد لغة القرآن الكريم، ونحن من نصر وساند رسول الله صلى الله عليه وسلم في بداية دعوته ونحن من إستقبله وأكرم وفادته عندما أخرجه الكفار من قريش، ومنا كان القادة والجند والعمود الفقري لجيوش الفتوحات الإسلامية التي فتحت إيران ومصر وشمال أفريقيا ووصلت حتى جنوبفرنسا.. ونحن من نشر الإسلام في جنوب شرق آسيا عن طريق تجارنا اليمانيين الحضارم الشرفاء والأمناء، ونحن من يعول عليهم دائماً في الأزمات حتى الخيول العربية الأصيلة أصلها من اليمن وبالتحديد من مأرب والجوف، ونحن من قال فينا رسول صلى الله عليه وسلم يقول "أتاكم أهل اليمن هم أرق قلوبنا وألين أفئدة، الإيمانُ يمان والحكمة يمانية" والله سبحانه وتعالى يقول "ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيراً كثيرا"، كما يقول المصطفى عليه السلام "إذا هاجت الفتن فعليكم باليمن"، والله جلّ في سماه يقول عن نبيه وخاتم رسله "لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحيٌ يوحى"، وهذا يعني أن الرسول صلوات الله وسلامه عليه لم يكن يجاملنا وإنما كان يقول ما أُمر أن يقوله.. ولذا فإنه يتحتم علينا أن نشمر السواعد، ونشحذ الهمم، وأن نخلص النية ونجعل مصلحة البلد العليا نصب أُعيننا وفي المقام الأول والأخير، وأن نستعين بالعلم والعمل والإيمان كي نتمكن– ليس فقط – من اللحاق بركب الأمم وإنما كي نقود هذه الأمم وأن نعود آية لهذه الأرض كما كان أجدادنا الأوائل.