دمعت عيونهم وأصابتهم الدهشة، عند رؤيتهم المأساة، أربع سيارات مصفحة تقل خمسين جنديا وخمسة ضباط من قوات الأمن، توقفت أمام العمارة بعد منتصف ليلة حزينة، يصعد الجنود السلم مددجين بأسلحتهم، خطواتهم تزلزل العمارة والعمارات المجاورة فى الحى، حركتهم الهمجية أيقظت السكان، أقلقت مضاجعهم، وفيهم المرضى وكبار السن والعجزة، أرعبت الأطفال، أخافت النساء، اقتحموا الشقة التى تسكنها إمرأة ترعى أربعة من اليتامى. كبيرهم طالب فى السنة النهائية لإحدى الكليات الجامعية، وهو المطلوب القبض عليه، والإتيان به حيا أو ميتا، دون أن يعطوا الفرصة لمن فى الداخل أن يفتح، كسروا باب الشقة، دخلوا البيت عنوة دون مراعاة لحُرمة أو احترام لآدمية. بعد أكثر من ساعة، أجهزوا على كثير مما تحتويه الشقة، تكسير، تحطيم، اتلاف، مع السب والشتم والصوت الجهورى يسمعه القاصى والدانى مصحوبا بأصوات صراخ متقطع لصبية صغار، خرج الجنود منتشين مسرورين لأنهم انتصروا وبصحبتهم الشاب مكبلا بالقيود، تهمته العظمى أنه يسير فى طريق الدعوة، يعلم أطفال الحى قراءة القرآن الكريم والأحاديث النبوية، قصص الأبطال ، طاعة الوالدين، حب الوطن، العزة، الكرامة......... أصيب الجيران بالصدمة، منهم من أُغمى عليهمن هول الموقف ، ومنهم من سأل الله أن ينتقم من هؤلاء الجنود، ومنهم من وجه السباب والشتائم، وكثير من النساء والصبية والشباب هتفوا ضدهم، ذهب النوم عنهم تلك الليلة حتى أُذن للفجر، عند سماع الآذان هُرع الناس إلى المسجد الذى اكتظ بالمصلين، وكان القنوت، الشاب الذى يحبه سكان الحى كان موعد امتحانه فى اليوم التالى، أرسل السكان العديد من البرقيات للمسئولين لإستعطافهم ليطلقوا سراحه ليؤدى الإمتحان، الا أن الرفض كان هو الرد عليهم ، دخل الشاب السجن ومعه العديد من الرجال الأتقياء، هدفهم الذى يعملون من أجله هو اصلاح الأمة وازالة الغمة. فى زنزانته رافقه رجل فى الأربعينيات ، قالوا عنه أنه تاجر صدوق، فتح الله عليه بالرزق الحلال، فأصبح من أشهر تجار العطارة فى البلاد، امتلك المال الكثير، فوضعه الله فى يده ولم يجعله فى قلبه، اقترب العطار من الشاب، عامله كابن له، جعله الله سببا فى ثبات الشاب وصبره، ونزول السكينة على قلبه، حدثه عن حياته، خبراته، تجاربه، تجارته.... أصبحا صديقين وكأنهما قد تعارفا منذ أمد بعيد، خصص الرجل جزء من الوقت ليُفضى للشاب بأسرار تجارة العطارة، وعن دور عنصرى التجارة- الأمانة والمهارة- فى الربح الوفير، فى الدنيا ولآخرة، وعده بأنه سيكون عونا له، وسوف يمكنه من فتح محل للعطارة بمدينته، يكون ملكا خاصا به، وسيمده بالبضاعة شريطة أن يلتزم بمبادىء التجارة بعيدا عن العشم أو الغشم. خرج العطار والشاب من السجن، بعد أن أمضايا فيه عدة أشهر، ومضت الأيام بحلوها ومرها، كان الشاب قد تحصل على مؤهله الدراسى بتقدير جيد، وفى أمسية جميلة وقف الشاب أمام دكانه الذى أصبح أكبر دكاكين العطارة فى المدينة، وقف وبجواره العطار الكبير رفيق السجن فى الماضى، وهما يستقبلان المهنئين بمناسبة مرور ثلاث سنوات على انشاء الدكان. [email protected]