الثورة الشعبية في اليمن قامت لتكريس ثوابته ولحماية منجزاته ولتخليص اليمن من الفساد والممارسات السياسية الخاطئة التي تلتف على المسار الديمقراطي وتُخل بمبدأ سيادة القانون ودولة المؤسسات. والمرحلة الإنتقالية لهذه الثورة كان ينبغي أن تحصر مهامها في التهيئة للإنتخابات بصورة نزيهة مبرأة من الشوائب لسرعة تسليم السلطة السياسية لمن يختاره الشعب بإرادته الحرة ولا يجوز بحال من الأحوال أن تسند لهذه المرحلة الإنتقالية مهمة صياغة مستقبل اليمن عبر إسناد مهمة تعديل الدستور أو إعادة صياغته إليها، لأن الدستور من خلاله يتم تحديد طبيعة نظام الدولة ووضع الأسس والثوابت التي ستتحكم بمصائر هذا الشعب ومستقبله، وبالتالي لا يجوز المساس بالدستور تعديلاً أو إعادة صياغة إلا عبر آلية ديمقراطية تمثل الشعب عبر لجنة تأسيسية منتخبة أو عبر مجلس النواب المنتخب القادم لأنه لا يمكن الوصول إلى مضمون يجسد مصالح الشعب في الدستور إلا عبر من يمثلون الشعب. لأن لكل شعب ودولة ثوابت وطنية يجسدها الدستور وكل هذه الدساتير في مختلف أنحاء العالم متفقة على ثابت أساسي وهو مبدأ سيادة الدولة ووحدة أراضيها وأي خروج على هذا المبدأ في أي دستور من دساتير العالم يعتبر خيانة وطنية عظمى يحاكم أي خارج أو متمرد على مبدأ سيادة الدولة ووحدة أراضيها كائناً من كان. والعجيب في اليمن أن يسند إلى لجنة الحوار الوطني في مرحلة إنتقالية مهمة تعديل الدستور بل وإعادة صياغته كلياً بمعزل عن الشرعية الشعبية وعن المؤسسات الدستورية المنتخبة، والأعجب منه أن تنطلق التصريحات من القيادات السياسية المختلفة أن الحوار الوطني المتعلق بصياغة دستور البلاد ليس له سقف، أي أن هذا الحوار متحلل من كل الثوابت والأسس المتعلقة بالدساتير، وكان ينبغي أن تدرك هذه القيادات أنه لا يجوز لها المساس بالدستور بمعزل عن الإرادة الشعبية إبتداء، وإذا اضطرتنا الظروف لصياغة دستور جديد فكان ينبغي لتأمين مصالح الشعب ومستقبله تقييد هذه اللجنة بالثوابت الوطنية والشرعية (عدم المساس بإسلامية الدستور – عدم المساس بالنظام الجمهوري – عدم المساس بالوحدة اليمنية – عدم المساس بالنهج الشوروي الديمقراطي). يضاف إلى ذلك إعتبار عمل هذه اللجنة مشروع دستور لا دستور نافذ حتى تتم الإنتخابات القادمة ويقر هذا المشروع مجلس النواب القادم الممثل للشعب. وعجب العجاب في المهزلة التي تدور في البلاد اليوم أن الرئيس الجديد والقوى السياسية لم تستطع إدراك أبجديات مبدأ سيادة القانون ودولة النظام وأبجديات العمل السياسي فخلطت بين صياغة الدستور والحوار مع حركات التمرد والإنفصال، وكان الأولى أن يتم تقسيم لجنة الحوار إلى لجنتين: لجنة تتولى إعادة صياغة الدستور وآلية هذه اللجنة كان ينبغي قانوناً ودستوراً أن تختار من مجلس النواب الحالي باعتباره يمثل الشعب، ونخبة من علماء اليمن لأنهم محل ثقة الشعب كما أنه من المستغرب أيضاً إقصاء الشيخ حميد الأحمر من اللجنة التحضيرية الذي كان أمينها العام وهو قطب الثورة الشعبية والمدافع عنها، ويتم تمثيل هذه اللجنة بحسب نسب الأحزاب في البرلمان. ولجنة أخرى تتولى الحوار مع حركة التمرد الإمامية الحوثية الرافضة لمبدأ سيادة الدولة وللنظام الجمهوري السنّي الداعية إلى نظام ملكي شيعي مدعوم من إيران بدلاً عن النظام الجمهوري، ولحركة التمرد الإنفصالية الحراكية التي لا تمثل أبناء الجنوب وإنما تمثل مخططات الحزب الإشتراكي (الجناح الإنفصالي – جناح علي سالم البيض). فمعظم أبناء الجنوب يرفضون الإنفصال ويتخوفون في حال الإنفصال من عودة قبضة الحزب الإشتراكي على الجنوب مجدداً وعودة معاناتهم من الحزب كما كانت قبل الوحدة نهباً للأموال وقتلاً للأنفس وتأميماً للبيوت. وكان ينبغي أن يكون موضوع الحوار مع حركات التمرد هذه هو أسباب هذا التمرد وضرورة إحترام مبدأ سيادة الدولة ووحدة أراضيها وفي حال الرفض يتم فرض سيادة الدولة بالقوة المسلحة كما هو المعلوم في كل دول العالم. بدلاً عن ذلك كله يحصل العجب العجاب وأغرب الغرائب .. يختزل الحوار الوطني كله في موضوعين (الحراك الإنفصالي – والتمرد الإمامي في صعدة) وتترك معاناة الشعب جانباً بل ويتم تمثيل حركات التمرد في اللجنة، وبدلاً عن محاورتهم عن ضرورة العدول عن تمردهم والإعتراف بسيادة الدولة يوكل لهذين الفصيلين مهمة صياغة دستور البلاد مع تطمينهم مسبقاً أنه لا سقف للحوار، أي إعطائهم الحق بطرح موضوع الإنفصال (الإنفصال الجغرافي السياسي إلى شطرين – والإنفصال الجغرافي السياسي والاجتماعي إلى عدة دويلات وأقاليم عبر الفيدرالية وهو الأخطر من الإنفصال إلى شطرين) بل وإضفاء الشرعية الدستورية على هذا التمرد الحراكي الإشتراكي الداعي للإنفصال وإضفاء الشرعية الدستورية على دويلة إمامية حوثية في صعدة عبر الدستور الجديد، فهل هناك مهزلة تفوق هذه المهزلة أن يجتمع الخونة والقتلة والإنفصاليين لإلغاء شرعية الدولة وإضفاء الشرعية عليهم وعلى دويلاتهم في أخطر مؤامرة تستهدف الوحدة اليمنية مع أن البند الأول من المبادرة الخليجية قد حدد بوضوح أن الوحدة اليمنية هي سقف هذا الحوار الذي لا يجوز تجاوزه . ومن هذه الزاوية أقول أن اليمن تمر في منعطف تاريخي هام وأن إجراءات الحوار إذا سارت بهذا المنوال فيمكنني القول دون مبالغة أن الأزمة الحقيقية لليمن على الرغم من الأزمات السابقة التي عصفت به ستبدأ حقيقة مع بداية وإختتام مؤتمر الحوار الوطني لأن فعاليات هذا المؤتمر ستلغي دستور دولة الوحدة بدستور يفتت اليمن إلى عدة دويلات وأقاليم، أي بإختصار أن مؤتمر الحوار الوطني سيكون أشبه بمؤتمر سايس بيكو لتجزئة العالم العربي أو مؤتمر (اللهم باعد بين أسفارنا) بالمصطلح القرآني .. المشكلة التاريخية التي عصفت بأبناء اليمن وأدت إلى سقوط أعظم الدول والحضارات والمدنيات التي أقاموها وتمزيقهم شر ممزق، ولخطورة مشاريع التجزئة هذه نبه إليها القرآن في قوله تعالى (لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ{15} فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُم بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَى أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ{16} ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ{17} وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ{18} فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ{19} وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ{20})