مقتل "أربعة عمّال يمنيين" بقصف على حقل للغاز في كردستان العراق    مركبة مرسيدس بنز ذاتية القيادة من المستوى 3    "نهائي عربي" في بطولة دوري أبطال أفريقيا    اليوم السبت : سيئون مع شبام والوحدة مع البرق في الدور الثاني للبطولة الرمضانية لكرة السلة لأندية حضرموت    مقاتلو المغرب على موعد مع التاريخ في "صالات الرياض الخضراء"    الذهب يتجه لتسجيل أول خسارة أسبوعية في 6 أسابيع    جماعة الحوثي توجه تحذيرات للبنوك الخاصة بصنعاء من الأقدام على هذه الخطوة !    تقرير مروع يكشف عن عدد ضحايا " القات" في اليمن سنويا ويطلق تحذيرا !    القبض على عصابة من خارج حضرموت قتلت مواطن وألقته في مجرى السيول    لماذا يخوض الجميع في الكتابة عن الافلام والمسلسلات؟    الزنداني لم يكن حاله حال نفسه من المسجد إلى بيته، الزنداني تاريخ أسود بقهر الرجال    مقتل وإصابة أربعة جنود في اشتباكات مع مسلحين خلال مداهمة مخزن أسلحة شرقي اليمن    حادث مروع .. ارتطام دراجة نارية وسيارة ''هليوكس'' مسرعة بشاحنة ومقتل وإصابة كافة الركاب    كان يرتدي ملابس الإحرام.. حادث مروري مروع ينهي حياة شاب يمني في مكة خلال ذهابه لأداء العمرة    قتلوه برصاصة في الرأس.. العثور على جثة منتفخة في مجرى السيول بحضرموت والقبض على عدد من المتورطين في الجريمة    بعد القبض على الجناة.. الرواية الحوثية بشأن مقتل طفل في أحد فنادق إب    مأرب تقيم عزاءً في رحيل الشيخ الزنداني وكبار القيادات والمشايخ في مقدمة المعزين    السلفيون في وفاة الشيخ الزنداني    تعرف على آخر تحديث لأسعار صرف العملات في اليمن    أمطار غزيرة على صنعاء في الأثناء    عشرات الشهداء والجرحى في غارات إسرائيلية على وسط وجنوب قطاع غزة    «كاك بنك» يشارك في اليوم العربي للشمول المالي 2024    رفض قاطع لقرارات حيدان بإعادة الصراع إلى شبوة    قوات دفاع شبوة تحبط عملية تهريب كمية من الاسلحة    أكاديمي سعودي يلعنهم ويعدد جرائم الاخوان المخترقين لمنظومة التعليم السعودي    قذارة الميراث الذي خلفه الزنداني هي هذه التعليقات التكفيرية (توثيق)    ما الذي كان يفعله "عبدالمجيد الزنداني" في آخر أيّامه    لا يجوز الذهاب إلى الحج في هذه الحالة.. بيان لهيئة كبار العلماء بالسعودية    ريال مدريد يقترب من التتويج بلقب الليغا    توني كروس: انشيلوتي دائما ما يكذب علينا    وزارة الحج والعمرة السعودية تكشف عن اشتراطات الحج لهذا العام.. وتحذيرات مهمة (تعرف عليها)    فرع العاب يجتمع برئاسة الاهدل    أكاديمي سعودي يتذمّر من هيمنة الاخوان المسلمين على التعليم والجامعات في بلاده    من كتب يلُبج.. قاعدة تعامل حكام صنعاء مع قادة الفكر الجنوبي ومثقفيه    مأرب: تتويج ورشة عمل اساسيات التخطيط الاستراتيجي بتشكيل "لجنة السلم المجتمعي"    لا يوجد علم اسمه الإعجاز العلمي في القرآن    حزب الإصلاح يسدد قيمة أسهم المواطنين المنكوبين في شركة الزنداني للأسماك    - عاجل شركة عجلان تنفي مايشاع حولها حول جرائم تهريب وبيع المبيدات الخطرة وتكشف انه تم ايقاف عملها منذ6 سنوات وتعاني من جور وظلم لصالح تجار جدد من العيار الثقيل وتسعد لرفع قضايا نشر    ناشط يفجّر فضيحة فساد في ضرائب القات للحوثيين!    الجريمة المركبة.. الإنجاز الوطني في لحظة فارقة    الدوري الانجليزي ... السيتي يكتسح برايتون برباعية    الزنداني.. مسيرة عطاء عاطرة    إيفرتون يصعق ليفربول ويعيق فرص وصوله للقب    انخفاض الذهب إلى 2313.44 دولار للأوقية    ذهبوا لتجهيز قاعة أعراس فعادوا بأكفان بيضاء.. وما كتبه أحدهم قبل وفاته يُدمي القلب.. حادثة مؤلمة تهز دولة عربية    مفاوضات في مسقط لحصول الحوثي على الخمس تطبيقا لفتوى الزنداني    تحذير أممي من تأثيرات قاسية للمناخ على أطفال اليمن    نقابة مستوردي وتجار الأدوية تحذر من نفاذ الأدوية من السوق الدوائي مع عودة وباء كوليرا    نبذه عن شركة الزنداني للأسماك وكبار أعضائها (أسماء)    طلاق فنان شهير من زوجته بعد 12 عامًا على الزواج    الشاعر باحارثة يشارك في مهرجان الوطن العربي للإبداع الثقافي الدولي بسلطنة عمان    دعاء الحر الشديد .. ردد 5 كلمات للوقاية من جهنم وتفتح أبواب الفرج    - أقرأ كيف يقارع حسين العماد بشعره الظلم والفساد ويحوله لوقود من الجمر والدموع،فاق العشرات من التقارير والتحقيقات الصحفية في كشفها    أعلامي سعودي شهير: رحل الزنداني وترك لنا فتاوى جاهلة واكتشافات علمية ساذجة    السعودية تضع اشتراطات صارمة للسماح بدخول الحجاج إلى أراضيها هذا العام    مؤسسة دغسان تحمل أربع جهات حكومية بينها الأمن والمخابرات مسؤلية إدخال المبيدات السامة (وثائق)    لحظة يازمن    وفاة الاديب والكاتب الصحفي محمد المساح    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التأصيل القرآني لحقوق النساء في تولي وظائف الولاية العامة : (الحلقة الأولى)
نشر في 14 أكتوبر يوم 25 - 01 - 2011

لايزال مجتمعنا يسير بقدم واحدة ، بسبب انفراد الرجل بالهيمنة على صنع القرار وتغييب فعالية المرأة .ويرجع هذا ضمن أسباب أخرى إلى ثقافة دينية تنتمي إلى العصور الوسطى ، وتخالف في أغلبها التعاليم الإسلامية الحقيقية، وهذه الثقافة تؤكد على حجاب المرأة ليس في الزي فقط ولكن أيضا حجبها عن المشاركة وعن العلم والاستنارة العقلية. وحتى إذا تخطت هذه الحواجز وشاركت مع الرجل في العمل فإنها لا تحصل على نفس فرصته في العمل الميداني وفي الترقي وفي المسئولية الإدارية وصنع القرار مهما بلغت كفاءتها ومهما بلغ إخلاصها وتفوقها . وهذا يخالف الإسلام .
فالله تعالى قد حرم الظلم وتوعد الظالمين بجهنم، وجعل القسط والعدل المقصد من إرسال الرسل وإنزال الشرائع السماوية:(لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ )(الحديد:25 ). كما جعل رب العزة جزاء الرجل مساويا لجزاء المرأة في العمل الصالح : (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ)(النحل 97)(وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ )( غافر 40 ). وعليه فليس من الإسلام في شيء ان تحرم إنسانا يتسم بالكفاءة والتفوق في عمله لمجرد انه امرأة . وأشد من ذلك ظلما لله تعالى ورسوله ودينه ان تمارس ذلك الظلم معتقدا ان ذلك هو الاسلام .
والحال أن للظلم الذي أصاب المرأة بأسم الإسلام وتأثر به المسلمون جذوراً قبل القرآن، وهي جذور تحريفية في التوراة تأثر بها المسلمون، وتلونت بها نظرتهم المتدنية للمرأة، وليس المجال هنا للتوقف مع التشريعات الاسرائيلية التي تهين المرأة، فهذا موضوع شرحه يطول، ولكن نتوقف مع الفكرة الشائعة التي أرستها تحريفات التوراة حين جعلت حواء مسؤولة وحدها عن خروج آدم من الجنة . تلك الاشاعة التي صدقها المسلمون أو الذين دخلوا في الاسلام من أبناء أهل الكتاب . مع أنها تخالف القرآن الكريم.
فالشائع أن إبليس هو الذي خدع حواء، وأن حواء هي التي أثرت على آدم، وهي السبب في خروج آدم من الجنة..
ولكن القرآن (البقرة 35 37 ) و(الأعراف 20 23 ) يؤكد على أن المسئولية مشتركة بين آدم وحواء، ولا تتحملها حواء وحدها، بل يتحملانها معاً، وربما يتحمل آدم النصيب الأكبر.
ففى سورة البقرة يقول تعالى (وَقُلْنَا يَآءَادَمُ اسكن أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ فَتَلَقَّى ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ) (البقرة: 37:35.).
ونلاحظ أن الأوامر و النواهي جاءت لآدم وحواء بالتساوي وجاءت بصيغة المثنى " وَكُلاَ مِنْهَا رَغَداً " حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا ". ونلاحظ أن الشيطان خدعهما معاً وتسبب في إخراجهما معاً، وجاء حديث القرآن أيضا بصيغة المثنى ليؤكد أن المسئولية تلحق الاثنين معاً " فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ".بل قد نلاحظ أن نصيب آدم من المسئولية أكبر، فالخطاب جاء له رأساً وبصيغة مباشرة " وَقُلْنَا يَآءَادَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ " بل إن اسم حواء لم يرد في القرآن مطلقاً.
ولأن المسئولية تقع على كاهل آدم أكثر فانه هو الذي قال عنه القرآن "فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه". وطبعاً تابت معه حواء، فالقرآن يذكر الكلمات التي تعلمها آدم في التوبة، وأن حواء رددتها معه، بقوله تعالى في سورة الأعراف (قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) الأعراف:23.
أي أن القرآن يذكر توبة آدم في موضع، ويذكر توبة آدم وحواء في موضع آخر لنفهم أن مسئولية آدم في الذنب أكبر وأشد من حواء.وبالتالي فإن حواء ليست وحدها المسئولة عن إخراج زوجها من الجنة .. بل هو المسئول الأكبر ولا يزال.
الثابت ان المسلمين لم يستفيدوا من القصص القرآني الذي تعرض للمرأة بصورة واقعية دون إجحاف بحقها. فلم يستنكر القصص القرآني تولي امرأة سلطة الملك، بل قال لنا ان قوم سبأ أفلحوا عندما حكمتهم امرأة بالشورى والحكمة.. ولم يستنكر أن تكون هناك ملكة لسبأ . وأنما أستنكر أن يعبدوا الشمس من دون الله .وأورد القرأن ما يدل على كفاءة ملكة سبأ وحسن سياستها وكيف انتهت إلى الإيمان الصحيح في تعاملها مع النبي سليمان . وفى المقابل استنكر القرآن أستبداد فرعون وظلمه وادعاءه الألوهية . وكيف انتهى تعامله مع موسى وهارون بأن اهلك نفسه وقومه .أي كانت بلقيس اكفأ من فرعون فرعون مصر وكل منهما حاكم على قومه.
والبطولة الحقيقية في قصة موسى للنساء، وكل منهن قامت بدورها في منتهى الكفاءة من أم موسى إلى أخت موسى إلى أمرأة فرعون ووصيفاتها، إلى الفتاتين العاملتين في الرعي أبنتى الرجل الصالح في مدين، وقد تزوج موسى احداهما وفي كل الأحوال نرى امرأة متميزة ومختلفة من الأم إلى الأخت إلى الزوجة، من العاملة إلى الوصيفة إلى المرضعة إلى الملكة . من الفتاة إلى العروس إلى الزوجة التي توشك على الوضع...شخصيات فاعلة مؤثرة ايجابية تمثل كل احوال المرأة .
كما نرى نفس التفاعل تقريبا في قصة يوسف من امرأة العزيز والنساء المترفات في مصر القديمة إلى أم يوسف ونساء أسرته . وفي النهاية يجعل القرآن الكريم المثل الأعلى للمؤمنين في كل زمان ومكان امرأتين : السيدة مريم، وزوجة فرعون . كما يجعل المثل الأسوأ للأشرار في كل مكان وزمان ومكان امرأتين : زوجة نوح وزوجة لوط ..أي أن كفاءة المرأة في الخير لا يعدلها الا تفوقها في الشر . وفي كل الأحوال فهي عنصر مؤثر وفعال في عالم الرجال.
تجاهل الفقهاء منهج القرآن التشريعي
تأسيسا على ذلك يمكن القول إن الفقهاء الأسلاف أجحفوا بحق المرأة . وتجاهلوا حقيقة أن الاحكام في التشريعات القرآنية هي اوامر ليست مطلقة ولكن تخضع في تطبيقها لمقاصد تشريعية كالعدل والتقوى والسمو الخلقي و التيسير ورفع الحرج . وهناك من التشريعات الخطيرة كالقتال، يأتي فيها الأمر التشريعى بالقتال خاضعا لقواعد تشريعية، وهذه القواعد التشريعية تخضع بدورها لمقاصد او اهداف، او غايات عامة .
ونعطى أمثلة :
فالامر بالقتال له قاعدة تشريعية وهي ان يكون للدفاع عن النفس ورد الاعتداء بمثله او بتعبير القرآن (في سبيل الله)، ثم يكون الهدف النهائي للقتال هو تقرير الحرية الدينية ومنع الاضطهاد في الدين، كي يختار كل انسان ما يشاء من عقيدة وهو يعيش في سلام وامان حتى يكون مسئولا عن اختياره امام الله تعالي يوم القيامة .
يقول تعالي(وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ ) (البقرة195) فالامر هنا (قَاتِلُواْ) والقاعدة التشريعية هي (فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ).وهي الحاكمة و المسيطرة على الأمر بالقتال .
وتتكرر وتتأكد القاعدة التشريعية في قوله تعالى (فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ )( :البقرة 194). كما تتأكد أكثر في حصر القتال باستمرار الطرف الآخر في الاعتداء، فإذا انتهى عن الاعتداء وجب على المسلمين وقف القتال، وتكرر هذا في قوله جل وعلا (فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (فَإِنِ انتَهَوْا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ) (البقرة 191 / 192 ).
والقاعدة التشريعية بدورها تدور في إطار المقصد التشريعي للقتال في الاسلام، وهي في قوله تعالي (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ) (البقرة 193) أي ان منع الفتنة هي الهدف الاساسي من التشريع بالقتال . والفتنة في المصطلح القرآني هي الاكراه في الدين أو الاضطهاد في الدين، وهذا ماكان يفعله المشركون في مكة ضد المسلمين، يقول تعالى (وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ) (البقرة 217). وقد أوجز رب العزة هذا كله في دعوة الكفار المعتدين للكف عن عدوانهم فقال : (قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّه فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ) (الانفال 38 39 ) .
وبتقرير الحرية الدينية ومنع الفتنة او الاضطهاد الديني يكون الدين كله لله تعالى يحكم فيه وحده يوم القيامة فيما يختلف فيه الناس في عقائدهم وشعائرهم . وذلك حتى لا يغتصب احدهم سلطة الله في محاكم التفتيش واضطهاد المخالفين في الرأي، ويجعل الدين مطية لأغراضه السياسية و الدنيوية. وذلك معنى أن يكون الدين كله لله جل وعلا وحده لأنه وحده الذي يحكم بين البشر المختصمين في ربهم، فيقيم لهم يوم الحساب محكمة تنتهي ببعضهم إلى الجنة وبالبعض الآخر إلى النار:(هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُؤُوسِهِمُ الْحَمِيمُ يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ وَلَهُم مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ )( الحج 19 : 23). بمعنى أن البشر يتنوعون يوم القيامة إلى خصمين، كل منهما له فكرة وعقيدة عن رب العزة، ولا يصح للخصم أن يكون حكما وقاضيا على خصمه، بل لا بد من الاحتكام إلى صاحب الشأن الله جل وعلا وهو الذي له الدين واصبا خالصا (وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ)(النحل 52). ويكفي ما ينتظر الفائز من نعيم أبدي في الجنة أو عذاب أبدي في النار.
ما من شك في أن هذه القواعد والمقاصد التشريعية الاسلامية في القتال تمّ إهمالها لأن الفقهاء الأسلاف ركزوا على الأمر فقط وهو: (قَاتِلُواْ) فصار أمرا مفتوحا ومطلقا بالقتال، فتحول القتال عند المسلمين إلى اعتداء ثم إلى ارهاب وصلت وتصل ضحاياه إلى الملايين من المسلمين وغيرهم وكل ذلك تحت راية ( الجهاد ).
وعليه فإن الأغلب في تشريعات المرأة في الاسلام أن تخضع الأوامر مباشرة للمقاصد التشريعية .
فالأوامر التشريعية مثل الاحكام الخاصة بالزي والزينة وشهادة المرأة والميراث..الخ تخضع مباشرة لمقاصد تشريعية، من العدل والتقوى والسمو الخلقي والتيسير والتوسط والاعتدال . ومثلا فالأمر بغضّ البصر للمؤمنين مقصده التشريعي هو التزكية الخلقية والتقوى:( قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ )( النور 30 )، فالأمر هنا (قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ) يخضع للمقصد التشريعي وهو التزكية (ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ ) ومعه التقوى وخشية الله جل وعلا وهو الخبير بما نصنع (إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ ).وبإهمال التقوى تتحول النظرات البريئة والعفوية إلى تلصص وخيانة بالعين، قد لا يدركها الناس ولكن يعلمها رب الناس جل وعلا وهو الذي (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ ) ( غافر 19 )
تتجلى الخطورة أكثر في موضوع الزي فالتركيز على الأمر بالحشمة بمعنى ارتداء الخمار الذي يغطى الصدر تطور ليتحول الخمار بالمفهوم القرآني إلى حجاب يغطي كل الرأس والعنق، ثم تطرف إلى نقاب يعبئ المرأة داخل كيس، وهذا التركيز على الأمر التشريعي أو التطرف فيه يضيع مباشرة المقاصد الأساسية من التشريع، وهي هنا التقوى والسمو الخلقي والتيسير ورفع الحرج، وبالتالي نقع في التشدد والغلو والتطرف والظلم والانحلال الخلقي . أي ننسى التركيز على عفة المرأة وتقواها، لنتشدد في المظهر الخارجي، فيتحول النقاب مشجعا على الانحلال الخلقي لأن النقاب هو الوسيلة المثلى لأخفاء شخصية المرأة وأكبر مشجع لها في الانفلات الخلقي . ومن أسف فإن ثقافتنا الدينية السلفية لا تزال تتطرف بالأخذ بالأوامر التشريعية وتهمل مقاصدها التشريعية، فيقع الظلم والتعصب والإرهاب .
إهمال الفقهاء مساواة المرأة بالرجل في النسق القرآني
المساواة بين الرجل والمرأة واضحة في المصطلح القرأني، ونعطي لذلك بعض الأمثلة :
1 تدل كلمة " الزوج" في القرآن على الرجل أو على المرأة، والسياق هو الذي يحدد ما إذا كان الزوج المقصود في الآية هو الرجل أو المرآة (راجع كلمة زوج ومشتقاتها في المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم). ولم يرد في القرآن الكريم على الاطلاق لفظ ( الزوجة ).
2 تشير كلمة " الوالدين " أو آباؤكم " إلى الرجل والمرأة معا، كما أن كلمة "ابناء"و " أولادكم " تطلق على الذكور والإناث (النساء 11، 12، 26، والأسراء 23).
3 تشمل كلمة "الذين " في الخطاب القرآني الرجال والنساء إلا إذا جاء في السياق ما يؤكد اقتصار الخطاب على الرجال -فالقرآن مثلا حين يأمر الذين آمنوا بالصيام فإن الأمر للنساء والرجال معا. ومثلها ألفاظ أخرى مثل ( الناس ) ( بني آدم ) (الإنس ).
4 يتساوى الرجل والمرأة في المسئولية والحساب والثواب والعقاب في الآخرة، فالذي يعمل صالحا من ذكر أو انثى له الأجر في الدنيا والآخرة (آل عمران 195، النساء 124، النحل 97 غافر 40) أي أن تشريع الله تعالى يقوم على أساس تكافؤ الفرص بين كل البشر، كل انسان وما يختاره لنفسه اذا كان ذكرا او انثى .
ونستنتج من ذلك ان الفقهاء الأسلاف أهملوا التوازن بين المساواة والعدل في التشريع القرآني، وفهموه خطأ على أنه تفضيل للرجل على المرأة . وتجاهلوا أن المساواة المطلقة في كل الأحوال قد تكون ظلما . فمن الظلم أن يتساوى في الأجر موظفان بنفس الدرجة إذا كان أحدهما مجتهداً والآخر كسولاً . وعلى سبيل المثال فلو أردت أن توزع بالمساواة المطلقة ألف دينار على تلاميذ فصل دراسي فذلك يكون ظلما، لأن بعض التلاميذ غني و غير محتاج وبعضهم غاية في الفقر، والمساواة المطلقة بينهم ظلم.
لقد راعى التشريع القرآني أهمية تحقيق التوازن بين العدل والمساواة، فهناك مساواة من حيث الأصل والجزاء، ولكن لا بد من العدل حسب الاستحقاقات وتغير الظروف . ولم يفهم الفقهاء تلك الموازنة إلا في ضوء ثقافتهم الذكورية، فحسبوها تمييزا مطلقا للذكر على الأنثى.
وعلى سبيل المثال فالرجل هو الذي يدفع المهر وهو الذي يحمى البيت وينفق عليه، ولذلك فهو صاحب القوامة في الزواج، وهي قوامة مشروطة بالانفاق والرعاية ومسؤولية الزوج على زوجته .والمرأة إذا كانت مستغنية عن مال زوجها فمن حقها أن تكون العصمة بيدها وتنص على ذلك في العقد، والعقد شريعة المتعاقدين، والمرأة لها حق أن "تفتدي " نفسها من زوج تكرهه اذا تنازلت له عما دفعه لها من مهر، والزوج اذا لم يكن ينفق على زوجته ضاع منه حق القوامة (النساء 34، البقرة 229، المائدة 1).
ولأن الرجل هو الذي يعول البيت ويدفع المهر بينما لا تتحمل المرأة شيئا في هذا أو ذاك، بل يكفل الرجل نفقاتها شرعا فمن العدل أن يكون حق الابن والأخ ضعف حق البنت والأخت في الميراث، وإلا كان ظلما للابن والأخ أن يتحمل كل منهما مسئولية مالية شرعية ثم لا يحصل على تشريع يعينه على هذا . ولكن لأن الأب و الأم معا يشاركون في عبء تربية الأولاد، فإنه اذا مات الابن فإن الام والاب يتساويان في نصيبيهما في تركته . لكل واحد منهما السدس أو الثلث (النساء 11) .أما شهادة امراتين التي تساوي شهادة رجل واحد فإنها تأتي في موضوع محدد، وهو الاشهاد على الديون فقط (البقرة 282)، وذلك وفقا للسياق القرآني وتطبيقه الذي سار، فقد كان يتم تعيين شهود في الأسواق تكون شهادتهم مثل الختم الرسمي المعتمد، ولأن هذا العمل في الاقتصاد والمصارف والأسواق كانت أغلبيته للرجال - ولا تزال- فقد جاء تخصيص هذه النسبة للمرأة بأن تكون نصف الرجل في الشهادة في الديون المالية، ولو حصرنا نسبة العاملات في هذا المجال بالذات لوجدنا نسبتهن أقل بكثير مما اعطاه القرآن للمرأة .على ان هذه النسبة لا تسري على شهادة المرأة في العقوبات وغيرها .إذا أن شهادة المرأة فيما عدا الديون تساوي شهادة الرجل .
وواضح أنها استثناءات ولكن الفقهاء عمموها فجعلوا للمرأة نصف الرجل في كل الأحوال في الميراث وفي كل التعاملات. والمقصود أن المساواة قائمة في شريعة الله تعالى بين الرجل والمرأة في إطار العدل ولابد في كل تشريع من اقتران المساواة بالعدل، وإلا تحولت إلى مأساة.
إنكار حق المرأة في السفر وحدها، وإلزامها بولي أمر يصحبها في السفر
من نافل القول أن الفقهاء السنيين الحنابلة أنكروا حق المرأة في السفر دون ولي أمر أو (محرم )، وبهذا الصدد يتوجب القول أن أولئك الفقهاء تناسوا الحقائق القرآنية الآتية :
أولا أنكرالفقهاء الحنابلة حق المرأة في السعي طلباً للرزق والعلم والسفر في مناكب الأرض، وهو أمر جاء عاما للجميع، لأن كل موارد الأرض مباحة لكل من يسعى ويطلب الرزق دون تخصيص للرجل على المرأة .. يقول جل وعلا عن الأرض ومواردها الاقتصادية : (وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِّلسَّائِلِينَ) (فصلت 10) فهي بالتساوي وتكافؤ الفرص لكل السائلين من رجال ونساء . بل امتن الله جل وعلا على البشر أن جعل لهم الأرض ذلولا ميسرة للسعي وأمرهم جميعا من رجال ونساء أن يمشوا في مناكبها ويأكلوا من رزقه جل وعلا (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) (الملك 15 ) .. الأمر الذي يدل بوضوح على عدم وجود أي استثناء يمنع النساء من السعي للرزق .فالسعي فرض على الجميع، والنشور و البعث مصير الجميع .
ثانيا أنكر الفقهاء الحنابلة حق المرأة في الهجرة بدينها، بل وجوب هجرتها كالرجل عند المقدرة، وإلا كانت من أهل النار، يقول جل وعلا : (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُواْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا ) والحديث هنا عام يشمل الجميع من رجال ونساء طالما كانوا قادرين على الهجرة ولكن تثاقلوا عنها . لذا جاء الاستثناء في الآية التالية ليشمل المستضعفين من الرجال والنساء والصغار:(إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا)( النساء 97 : 99).
وفى المقابل فإن الأجر الحسن ينتظر المهاجرين والمهاجرات، والتعبير القرآني يستعمل أيضا لفظ ( الذين ) ليدل على الجميع، يقول جل وعلا :(وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ)( النحل 41 : 42 ).
وكما قلنا، فالسياق القرآني يستعمل لفظ ( الذين ) ليدل على المؤمنين ذكورا وإناثا طالما لم يرد فيه تخصيص للرجل أو المرأة، كقوله جل وعلا : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ )، (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِن بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُوْلَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ )( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُواْ لِلَّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ )( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ) ( البقرة 153، 159 : 160، 172، 183).
ثالثا أنكرالفقهاء الحنابلة حقيقة أن السياق القرآني يوضح ما يستدعي التخصيص للرجل أو المرأة، وفي موضوع هجرة المرأة نجد تشريعات للمؤمنات اللاتي هاجرن للمدينة وتركن أزواجهن، وللرجال المؤمنين الذين هاجروا وتركوا خلفهم نساءهم الكافرات، وينزل التشريع القرآني يحكم في الفصل بين هؤلاء وهؤلاء : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُم مِّثْلَ مَا أَنفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ ). ويهمنا من هذا التشريع أن المرأة المؤمنة لها حق الهجرة كالرجل تماما، بل يترتب على هذا الحق تشريعات شخصية فيما يخص العلاقة الزوجية الماضية والتي تأثرت بالهجرة والانفصال بين زوجين فرقت بينهما انتماءاتهما الدينية و العقيدية.
بل يترتب على ذلك ما هو أكثر بالنسبة للمرأة، وهو حقها السياسي في أن تكون جزءا متفاعلا في الدولة الإسلامية .
إنكار الفقهاء حق المرأة في المشاركة السياسية
عرضنا لهذا الموضوع بالتفصيل في مقال تحليلي استعرضنا فيه سورة الممتحنة سبق نشره في هذه الصحيفة قبل ثلاثة أعوام على ثلاث حلقات متسلسلة، قلنا فيه ما يخص حقوق المرأة في الاسلام : ( بعدها انتقلت الآيات الكريمة لتضع تشريعات اجتماعية في مشاكل الزواج والطلاق التي حدثت بعد الهجرة من مكة إلى المدينة وما حدث من انقطاع تام بين أهل المدينة وأهل مكة، وترتب على هذه القطيعة تفكك بعض الأسر بين زوج كافر استمر في مكة وزوجة مؤمنة تركت زوجها لتلحق بجماعة المؤمنين، أو العكس ؛ زوجة تمسكت بدين أهلها المتوارث وظلت في مكة رافضة أن تتبع زوجها الذي أسلم وهاجر.ثم هناك مشكلة أخرى، فقد تأتي احداهن تزعم الإيمان وهي في حقيقة الأمر أتت لتتجسس على المؤمنين وتساعد المشركين في اعتداء يعدون له، حيث عزموا على ملاحقة المؤمنين الفارين بالقتال في موطنهم الجديد الذي لجؤوا إليه. وبالتالي لا بد أن يرسلوا جواسيس للتمهيد للعدوان. والنساء أفضل من يقوم بهذه المهمة. ومن السهل أن تأتي نساء كثيرات كل منهن تزعم الإيمان، ولا يعلم حقيقة ما في القلب إلا الله تعالى. لذا نزلت الآيات مقدما تطرح الموضوع وتضع له التشريع المناسب: يقول سبحانه وتعالى: (يا أَيها الَّذينَ آمنوا إِذَا جاءَكُمُ الْمؤْمناتُ مهاجِراتٍ فَامتحنوهنَّ اللَّهُ أَعلَم بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ علمتموهنَّ مؤْمناتٍ فَلا ترجِعوهنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هنَّ حلٌّ لَّهمْ وَلا همْ يحلُّونَ لَهنَّ وَآتوهم ما أَنفَقُوا وَلا جناحَ علَيكُمْ أَن تنكحوهنَّ إِذَا آتيتموهنَّ أُجورَهنَّ وَلا تمسِكُوا بِعصمِ الْكَوَافرِ وَاساَلُوا ما أَنفَقْتمْ وَلْيسأَلُوا ما أَنفَقُوا ذَلكُمْ حكْمُ اللَّهِ يحكُمُ بينكُمْ وَاللَّهُ عليمٌ حكيم) (الممتحنة 10) (راجع صحيفة 14 اكتوبر الأعداد رقم (13516) و(13517) و(13518).... بتاريخ 5، 6، 7 سبتمبر 2006، ويمكن مطالعة الحلقات الثلاث لهذا المقال مباشرة على الروابط التالية في موقع الصحيفة على الإنترنت :
http://www.14october.com/Part.aspx?partid=76&issueid=31f7751b-adda-4fd2-bf19-e21ad63c104a
و http://www.14october.com/news.aspx?newsno=22245
و http://www.14october.com/Part.aspx?partid=76&issueid=8c15ba78-fee9-4f79-a1b4-f74df5d0b24d
هذه الآية تخاطب المؤمنين أنه إذا جاءتهم امرأة مهاجرة فعليهم امتحانها، أي سؤالها عن سبب مجيئها واختبار حالها حتى لا تكون عينا للعدو، وحتى يتأكدوا حسب الظاهر من حالها، أما حقيقة ما في القلب فمرجعه إلى الله. وإذا عرفوا صدقها فلا يجوز ارجاعها إلى الكفار الذين هربت منهم. إذ لا يحل لها أن تتزوج من كافر ولا يصح لكافر أن يتزوجها. وبالهجرة تحدد من اختار الايمان ومن اختار الكفر. واذا كانت المرأة المهاجرة زوجة تركت زوجها الكافر ولجأت للمؤمنين فعلى المؤمنين دفع المهر الذي دفعه من قبل الزوج الكافر تعويضا له، ويمكن لها أن تتزوج مؤمنا في موطنها الجديد، وعليه أن يدفع لها مهرها. وبالعكس، إذا اختارت الزوجة الكفر والبقاء في مكة رافضة أن تصحب زوجها إلى المدينة فعلى زوجها المؤمن في المدينة أن يطلقها تماما ويفارقها حتى تتزوج من كافر مثلها مقيم في نفس الموطن، وعلى الكفار دفع المهر الذي دفعه المؤمن من قبل.
ويقول جل وعلا : (وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُم مِّثْلَ مَا أَنفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ ) ( الممتحنة 11) ولآن الكفار لا عهد لهم ولا ذمة، وليس منتظرا منهم تطبيق هذا الحكم الإلهي بدفع ما عليهم من مهور للأزواج المؤمنين الذين تركوا أزواجهم فإن تعويض هؤلاء الأزواج المؤمنين بالعدل يمكن أن يتم إذا تمكن المؤمنون في المستقبل من الحصول على غنائم من الكفار.
وبعد استجواب المرأة المهاجرة واختبارها والتأكد من صدقها عليها أن تقوم بمبايعة النبي على الايمان والتمسك بالاخلاق الحميدة والطاعة في المعروف، وهذا ما جاءت به الآية التالية: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَن لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلا يَسْرِقْنَ وَلا يَزْنِينَ وَلا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَلا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ) ( الممتحنة :12)، أي يقول سبحانه و تعالى للنبي أنه إذا جاءته المؤمنات للمبايعة فعليه أن يبايعهن على الامتناع عن : الوقوع في الشرك والسرقة والزنا وقتل الأولاد والبهتان والكذب والزور وعصيان الأمر بالمعروف. واذا حدث وبايعن النبي على هذا فعلى النبي أن يدعو لهن ويطلب من الله تعالى الغفران لهن. والله تعالى غفور رحيم.
لقد أنكر الفقهاء حق المرأة الفردي في أن تكون عضوا مؤسسا في دولة الاسلام . وهذا أيضا ما تم تفصيله في نفس البحث في استعراض سورة الممتحنة . وقد توقفنا مع الآية 12 بالتحليل، وقلنا :
(سبق الإسلام في تعريف الدولة بأنها عقد بين الفرد والنظام الحاكم، وأن هذا العقد يستلزم التزامات معينة من الفرد مقابل قيام الدولة برعاية الفرد وحمايته).
ووردت في السور التي نزلت في المدينة إشارات إلى وجود عقد أو ميثاق أو عهد بين افراد المسلمين والنبي يتضمن تعهد كل فرد بطاعة القائد وهو النبي محمد عليه السلام ؛ ليس طاعته كشخص وفرد ولكن طاعة القيم الأخلاقية المنبثقة عن إلايمان الحق بالله تعالى واليوم الآخر، تلك هى البيعة العامة . ثم هناك بيعة خاصة طارئة مؤقتة تستلزمها ظروف المواجهة العسكرية حين يتعرض المجتمع المسلم إلى هجوم لابد من صده، وحينئذ يتطلب الأمر بيعة خاصة للالتزام بالدفاع عن الدولة.وفى كل الأحوال (البيعة العامة والبيعة الخاصة) فإنها بيعة لله تعالى ؛ فمن يبايع النبي - أو القائد - إنما يبايع الله، أي يلتزم أمام الله تعالى بالوفاء بالعهد والميثاق. وبالتالي فإن ضميره الشخصى هو الرقيب عليه في مدى هذا الإلتزام بهذا العهد، أي أنه مسئول أمام الله تعالى يوم القيامة فقط في مدى وفائه بهذا العقد أو العهد أو الميثاق أو البيعة. وفى كل الأحوال أيضا فإن تلك البيعة العامة والخاصة تشمل الرجال والنساء معا بما يعني المساواة بين الرجل والأنثى.
ذكرت روايات السيرة النبوية أن النبى محمدا عقد معاهدة سرية مع وفد من المدينة قبل الهجرة، وعقد معاهدة أخرى مع وفد آخر في العام التالى إلا أنها لم تذكر عقد معاهدة عامة مع أهل المدينة. القرآن الكريم في تعليقه على تباطؤ أو تخاذل بعض المؤمنين في الوفاء بهذا العقد كان يذكرهم بالعهد الذي التزموا به.
الإيمان له معنى عقيدي هو الإيمان بالله تعالى ورسوله وله معنى سلوكي هو اختيار السلام والأمن والسكون والابتعاد عن المشاكل، وقد كان معظم من آمن من المستضعفين الذين اختاروا الأمن والأمان سلوكا مع بقاء عقيدتهم على المعتقدات المتوارثة بشكل مخالف للعقد الذي عقدوه مع الله تعالى. تلك المعتقدات المتوارثة المخالفة للإسلام كانت تؤثر على التزاماتهم في الجهاد بالنفس والمال، إذ كانوا مطالبين بالإنفاق في سبيل الله فيبخلون، وكانوا مطالبين بالدفاع ضد عدو يعتدى فيتثاقلون تمسكا بالهوان وبالسلام السلبي مع عدو لا يجدي معه إلا دفع اعتدائه بالدفاع الصلب.
فى أوائل السور المدنية نجد القرآن الكريم ينهى المؤمنين عن خيانة الله ورسوله، وخيانة العهد والأمانة، ويأمرهم بالاستجابة وطاعة رسول الله ( 8 / 24 : 27 ) وتعبير الخيانة للعهد يعني وجود عهد قائم بين الله تعالى والمؤمنين وأنهم لم يقوموا بالالتزام بهذا العهد.
وفى أواخر السور المدنية يتكرر الأمر للمؤمنين بطاعة الله ورسوله وأن يواجهوا اعتداء المشركين، ليس بالوهن والاستسلام والحرص على حياة ذليلة وإنما بالدفاع البدني والإنفاق المالي في المجهود الحربي، وإن لم يفعلوا فمصيرهم إلى الاستئصال، وعندها يأتي رب العزة بمؤمنين آخرين خيرا منهم ( 47 / 32 : 38 ).
كان البخل شائعا بين هذه النوعية من المؤمنين وترتب عليه أن توعد الله تعالى بالعذاب اولئك الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل وذلك بعد أن كرر لهم أوامر العهد والميثاق وهى عبادة الله وحده لا شريك له والإحسان للوالدين والأقارب واليتامى والجيران والأصحاب وأبناء السبيل والرقيق (4 / 36: 37) وفى مواجهة ذلك البخل ونسيان العهد والميثاق والبيعة ينزل القرآن يذكر المؤمنين بالإيمان بالله تعالى ورسوله والإنفاق في سبيل الله ثم يعيب عليهم أنهم لا يؤمنون قلبيا وعقيديا بالله تعالى وحده، مع استمرار دعوة الرسول محمد عليه السلام لهم بأن يكون إيمانهم بالله تعالى وحده إلها، وبرغم أنهم عاهدوا الله تعالى ورسوله على ذلك الا أنهم كانوا ينسون ما يستدعي تذكيرهم وتأنيبهم (57 /7 : 8 ). وفي أواخر ما نزل من القرآن يتكرر نفس الموضوع في تذكيرهم بالميثاق الذي عقدوه يوم بيعتهم، وكيف أنهم قالوا سمعنا وأطعنا مع أن قلوبهم لم تكن مخلصة. ويحذرهم الله تعالى بأنه يعلم خفايا الصدور ( 5 /7).
هذا العهد والميثاق أو البيعة العامة كانت لكل فرد يدخل في إطار الدولة الإسلامية. وخلافا لما اعتاده العرب وما اعتادته ثقافة العصور الوسطى أعطيت المرأة نفس حق المواطنة الايجابية وحق المشاركة السياسية في الدولة الإسلامية، فقد كان عليها أن تبايع نفس المبايعة، وتضع يدها على يد النبي تعطيه البيعة. وهذا ما جاء في سورة الممتحنة ( 60 /12).
ولأنه أمر جديد لم يكن معروفا من قبل فإن الخطاب نزل للنبى محمد يوضح كيفية بيعة النساء للنبي، فالمؤمنات إذا أتين مهاجرات ليصبحن مواطنات في الدولة الجديدة فعليه أن يبايعهن على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يقعن في بهتان ولا يعصين النبي في معروف، فإذا بايعن النبي على هذه البنود فعليه أن يستغفر لهن الله على ما سبق من ذنوبهن، لأنهن قد دخلن في مرحلة جديدة من حياتهن. وهذا ما ينطبق على الرجال أيضا.
والواضح أن كل بنود البيعة للمؤمنين والمؤمنات تتلخص في تطبيق الإسلام والإيمان في العقيدة وفى السلوك. تطبيق الإسلام في العقيدة بعدم الوقوع في الشرك والكفر، أي بعدم الاعتقاد في إله إلا الله الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد، والإيمان والإسلام سلوكا بمعنى طاعة الله تعالى في التعامل مع البشر بعدم الاعتداء على حياة الآخرين وأعراضهم وأموالهم أي التمسك بالقيم العليا المتعارف عليها من العدل ومنع الظلم.
إذن بنود البيعة تتلخص في طاعة الله تعالى، وهنا تكون المساواة بين المسلمين جميعا بمن فيهم النبي نفسه، فهم مأمورون جميعا بطاعة الله الواحد عز وجل الذي لا شريك له في الملك. وعليه فإن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو تناصح بالتمسك بالقيم العليا المتعارف عليها والابتعاد عن الرذائل المستنكرة من جميع الناس، وهذا التناصح يعني أن ينصح كل مؤمن أخاه أو أخته، وأن تنصح كل مؤمنة أخاها أو أختها. وهنا مساواة المؤمنين جميعا رجالا ونساء؛ كلهم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ( 103 / 3 )، أي ليست هناك طائفة تأمر الآخرين ولا يأمرها أحد. ليس في الاسلام طائفة تحتكر إصدار الأوامر وتضع نفسها فوق القانون أو فوق الجميع بقوة القانون.
وبالتالى فليس هناك طاعة لشخص أو لحاكم حتى لو كان النبي نفسه. فالآية تقول عن أحد بنود البيعة عن النساء «ولا يعصينك في معروف» لو قالت الأية «ولا يعصينك» فقط لكان ذلك فرضا بطاعة النبي طاعة مطلقة. ومصطلح النبي يعني شخص النبي محمد وعلاقاته بمن حوله، لذا كان العتاب واللوم يأتي بصفة النبي بينما الطاعة تأتي مرتبطة بالرسول والذي يرتبط أيضا بالرسالة والقرآن. ولأن النبي هنا هو شخص النبي محمد فإن طاعته كشخص مرتبطة بأن تكون فقط في «معروف»، والمعروف هو المتعارف عليه من القيم العليا التي جاء بها القرآن والتى تجلت في سائر بنود البيعة. وإذا كانت طاعة النبي محمد - وهو القائد - مرتبطة بالمعروف وليست له طاعة كشخص، فإنه لا يجوز لأي شخص أن يطلب من المؤمنين طاعته دون قيد أو شرط. ولذلك فقد اشتق الفقهاء المسلمون الأحرار قاعدة سياسية تقول «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق» أي لا يصح الطاعة إلا في إطار طاعة الله تعالى وحده، فالمطاع هو الله تعالى وحده، ومن يطع القرآن أو الرسالة الإلهية الخاتمة بعد موت الرسول محمد فقد أطاع الله تعالى (4 /80 ) وكل من يأمر بما جاء في القرآن فيجب طاعة ما ينطق به من القرآن، وليس طاعته هو كشخص. وهذا معنى الأمر بطاعة الله ورسوله وأولي الأمر، ( 4 / 59 ) ليس هنا تثليث، أو عبادة لله والرسول وأولي الأمر، بل أن طاعة ولي الأمر وطاعة الرسول في ما يقال من أوامر جاءت من الله تعالى في كتابه الكريم ونطق بها الرسول وبلغها، ثم يقوم على رعايتها أولو الأمر. وإذا زاغ أحد منهم عن أوامر الله تعالى فلا طاعة له، بل يجب اعلان العصيان لأمره وتوضيح أنه يأمر بما يخالف القرآن، حتى نبرىء دين الله تعالى من استغلال دينه العظيم من سوء الاستغلال والفساد والاستبداد. باختصار: إن البشر عليهم أن يطيعوا الله تعالى وحده ويحرم عليهم طاعة أمر يخالف تشريع الله تعالى ومبادئه.
ويسري هذا على البيعة العامة في الدخول في مواطنة الدولة الإسلامية كما يسري على البيعة الخاصة التي تفرضها ظروف الحرب.
ليس في الإسلام إكراه على فعل الطاعة. وليس فيه عقوبة يوقعها الحاكم المسلم في ما يخص حقوق الله تعالى من ايمان قلبي وعبادة . العقوبة لا تكون إلا في ما يخص حقوق الأفراد. وليس في الإسلام إكراه على الجهاد أوالتجنيد. إن الجهاد بالمال واللسان والدعوة والنفس فريضة على كل مؤمن، وهو مسئول عن تأديتها أمام الله تعالى وحده يوم القيامة، وليس من سلطة الدولة المسلمة تجنيد الناس قسرا أو سخرة كما تفعل بعض النظم في عصرنا. وحين تثاقل المنافقون عن الدفاع عن المدينة واعتذروا بحجج واهية كان عقابهم الوحيد منعهم من الانضمام إلى الجيش مستقبلا ( 9/83 ).
ولأنه ليس هناك تجنيد إجبارى للأفراد فإن مواجهة العدو المعتدي كان يحتاج إلى عقد أو عهد أو ميثاق أو بيعة بالاختيار الفردي. ولأن من بايع طوعا عليه أن يلتزم بما عاهد الله تعالى عليه إلا أن بعضهم كان في وقت الشدائد يفر وينسى العهد والميثاق. في غزوة الأحزاب حوصرت المدينة من كل الجهات بقيادة جيوش من عدة قبائل يقودها أبو سفيان الأموي، في مواجهة هذا الحشد والحصار كان لابد من المبايعة على الدفاع عن النفس والقوم والوطن والعقيدة، وعندما اشتد الحصار ظهرت المواقف على حقيقتها، منهم من ظهر نفاقه وجبنه فتخلى عن مواقعه الدفاعيه وبدأ ينشر التشكيك وهو يفر من مواقع المعركة، وقد جعلهم الله تعالى مسئولين أمامه يوم القيامة عن نكثهم للعهد، ولكن ليست عليهم مساءلة في الدنيا وليس للدولة أن تعاقبهم ( 33 / 15 ). في المقابل هناك من المؤمنين من وقف موقفا بطوليا رجوليا. وجزاؤهم الحسن ينتظرهم يوم القيامة. ( 33 / 23 : 24 ).
فى موقف آخر خرج النبي محمد بأصحابه للحج في البيت الحرام، ليس معهم سلاح إلا سلاح المسافر، كأنهم يرفعون الراية البيضاء دليل المسالمة؛ خرج عليه السلام مسالما، فمنعته قريش من الدخول، وتأهبت لحربه وأرسل النبي بعض أصحابه للتفاوض فاحتجزوهم، وأشيع أن قريشا قتلتهم وأنها على أهبة الاستعداد للهجوم على المسلمين واستئصالهم. كان موقفا دقيقا استدعى من النبي أن يطلب من المؤمنين معه أن يبايعوه على القتال والمواجهة والصمود، فليس أمامهم طريق آخر. وتحت الشجرة جلس وجاء كل فرد يبايعه على الصمود والقتال، وكالعادة تكون البيعة لله ورسوله. هذا الموقف البطولي أخاف قريشا فأحجمت عن هجومها ولجأت للتفاوض السلمى . ونزلت آيات القرآن تعتبر ذلك نصرا، وتؤكد أن أولئك الذين بايعوا النبي محمدا إنما كانوا يبايعون الله تعالى، وكل منهم مسئول عن تنفيذ ما التزم به أمام الله تعالى، ومن يفي منهم ببيعته فسيكون جزاؤه عظيما عند الله تعالى، وتؤكد آية أخرى أن الله قد رضي عن الذين بايعوا النبي تحت الشجرة، وقد اطلع على الإخلاص الذي عم قلوبهم في هذه اللحظة الحرجة فزادهم سكينة وثقة وكافأهم بنصر قادم آت، وكان هذا النصر هو فتح مكة سلميا بعدها. ( 48 / 10، 18).
هذا هو مفهوم البيعة في الاسلام، وذلك كان تطبيقه في عهد النبي محمد عليه السلام. وكان يشمل الرجال والنساء.تغير هذا كله بالتدريج في تاريخ المسلمين بعد وفاة النبي محمد عليه السلام.
حوصر المسلمون بعد وفاة النبي بحركة الردة، حيث تجمع الأعراب (أشد الناس كفرا ونفاقا) حول المدينة يريدون الهجوم عليها في ذلك الوقت الحرج، فكان لابد من القيام بالبيعة لقائد يقوم بالأمر فتم اختيار أبي بكر وما لبث أن مات أبو بكر وقد دخل المسلمون في حرب جديدة ضد الفرس والروم. واستلزم الوضع الجديد البيعة لقائد جديد بعد ابي بكر فكان عمر. وبالفتوحات دخل المسلمون في عهد جديد تناسوا فيه جوهر الإسلام (العدل وحرية الرأي والفكر) فكان لابد من نسيان البيعة بالمفهوم القرآنى فتتحول من بيعة لله تعالى تقوم على أساس طاعته وتنفيذ أوامره ويكون تطبيقها منوطا بضمير المسلم نفسه إلى بيعة خضوع لحاكم مستبد ليحكم مستبدا طيلة عمره دون رقيب أو حسيب، وطبقا لتلك البيعة تجب طاعته طاعة مطلقة، مهما استأثر بالحكم والسلطان والثروة. وهذا ما بدأ في الدولة الأموية ولا يزال ساريا في بعض دول المسلمين حتى الآن.
مكانة المرأة
فى هذه السورة ملمح واضح يدل على مساواة المرأة بالرجل في الحقوق والواجبات في الإسلام حيث يحق لها المشاركة السياسية وحقوق المواطنة كالرجل إذ عليها أن تبايع الحاكم شأن كل رجل . مشاركة المرأة السياسية أكدها القرآن الكريم ليس فقط على المستوى التشريعي ولكن أيضا على المستويين التطبيقي والتاريخي.
على المستوى التطبيقي كان للمرأة ان تجادل النبي وتشكو له ولا تقتنع باجاباته فتدعو الله تعالى ان ينزل لها وحيا يحل مشكلتها فينزل الوحي يقول : (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ 58 /1). وكان مجتمع المدينة في عصر نزول القرآن خلية نحل تموج بالحركة والنشاط، حيث أباحت حرية الفكر والعقيدة والتعبير والحركة السلمية المعبرة عن العقائد أن تتألف جماعات من المنافقين والمنافقات يتحركون معا يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف فتقابلهم جماعات أخرى من المؤمنين والمؤمنات للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. (9 / 67، 71 ) هذا والدولة الاسلامية في عصر النبي محمد لا تتدخل في منع هذا او تاييد ذاك لأن مهمتها هي كفالة الحرية في العقائد والتعبير عنها بالطرق السلمية دون أن يقوم طرف باكراه الآخرين أو اضطهادهم في الدين.
على المستوى التاريخي فقد جعل الله تعالى المثل الأعلى للمؤمنين في كل زمان ومكان اثنتين من النساء هما السيدة مريم العذراء وزوجة فرعون، كما جعل المثل الأسفل لكل الكافرين في العقيدة والسلوك امرأتين أيضا هما زوجة نوح وزوجة لوط .( 66 / 10 12). كما قص الله تعالى قصة ملكة سبأ ( 27 / 22 44)، وتكررت في القرآن قصة فرعون وموسى.
التدبر القرآني وهو فريضة منسية يحمل المسلم على المقارنة بين اثنين من الحكام كلاهما تعامل مع نبي من الأنبياء بطريقة مختلفة، وفازت الحاكم الأنثى وخسر الحاكم الذكروأضاع عرشه وقومه. ليس المقصد هنا أن المرأة أفضل من الرجل في مجال الحكم، ولكنها إشارة تاريخية إلى أن إمرأة حكمت فكانت راشدة في وقت يضل فيه أغلب الحكام الذكور. ومن نافل القول أن المقارنة هائلة هنا بين الاسلام الذي يعلي من شأن المرأة ويكرمها، وبين والفقه السني الحنبلي الذي يجعل المرأة مخلوقا من ضلع أعوج يستحيل اصلاحه، ويجعلها (ناقصة عقل ودين ).!! فهل يصح أن يقال عن السيدة مريم عليها السلام و ملكة سبأ وزوجة فرعون أنهن ناقصات عقل ودين بعد كل هذا المدح الذي قاله الله تعالى عنهن في القرآن الكريم؟.
فى الحضارة الغربية لم يتم إعطاء المرأة حقوقها السياسية إلا مؤخرا، ولكن الإسلام سبق الجميع في ذلك. الإسلام لم يحرم على المرأة أي عمل حلال يقوم به الرجل، ويسرى ذلك على الجهاد، والدليل أن الأعذار المبيحة للتخلف عن الجهاد هي أعذار تحدث للمرأة والرجل على حد سواء، فليس هنا حرج على الأعمى أو الأعرج أو المريض في موضوع القتال الدفاعي في الإسلام (48 / 17 ). هذه الأعذار تسري هذا على الجنسين في الذكر والأنثى . وحتى في الصيام والحج كانت الشروط عامة للذكر و الأنثى، بل أن الأمر يأتى بلفظ «الذين آمنوا »، « يا بني آدم »، « يا أيها الناس » ليخاطب المرأة والرجل معا، وكل أمراة يشملها الأمر والنهي كالرجل تماما، أكثر من هذا فإن النسق القرآني في تشريع الأحوال الشخصية من زواج وطلاق لا يذكر مطلقا لفظ زوجة وإنما يقول « زوج » دلالة على الزوج والزوجة ويأتي السياق يحدد المقصود بها. والمقصود هنا هو المساواة الكاملة من حيث التكوين بين الزوج الرجل والزوج الأنثى فكلاهما واحد من حيث الأصل والنشأة، وكلاهما لهما نفس الحقوق وعليهما نفس الواجبات طبقا للعدل . وهناك تفصيلات أخرى تأتي في موضعها، وقد فصلنا القول فيها في كتاب لنا لم ينشر عن تشريعات المرأة بين القرآن والفقه السني.
هناك شيء مهم في سياق آيات سورة الممتحنة يستلزم الإيضاح . هو حق المرأة في السفر والهجرة وترك موطنها إلى حيث تريد طبقا لاختيارها العقيدي شأن الرجل تماما، وهذا ما حققته المرأة في عهد النبي محمد عليه السلام إذ هاجرت المؤمنات إلى الحبشة مرتين ثم مرة ثالثة إلى المدينة، بعضهن كن عذارى وبعضهن كن متزوجات هاجرن مع أزواجهن المؤمنين أو كن أزواجا تركن أزواجهن المشركين. أي أن من حق المرأة في الإسلام أن تهاجر إذا شاءت، والهجرة أصعب أنواع السفر لأنه سفر يحتمل المطاردة والملاحقة . وبالتالي فإن من حقها السفر العادي بمفردها، وليس لزوجها الحق في منعها إلا إذا كان هذا الحق للزوج منصوصا عليه في عقد الزواج .هذا في الإسلام. ولكن في دين السنة تم حرمان المرأة من هذا الحق فمنعوها حتى من السفر إلا بإذن زوجها، بل وجعلوا لها كفيلا - إذا لم تكن متزوجة هو «المحرم» أي الذي يحرم عليها أن تتزوجه كالأب والابن والأخ والعم والخال، أي اعتبروها شخصا غير كامل الأهلية، حتى لو كانت أما. وتخيل أن تربي الأم ابنها فاذا كبر أصبح آمرا ناهيا لها، يبلغ مبلغ الأهلية بينما تظل أمه مخلوقا ناقص الأهلية.
هكذا يتضح لنا ان التراث الفقهي القديم لم يظلم المرأة فقط بل ظلم معها الرجل، فهي له الأم والأخت والزوجة والبنت. واذا كانت المرأة ناقصة الأهلية اجتماعيا ودينيا فليس من حقها المشاركة السياسية وليس لها من حق في المواطنة المساوية للرجل. وبالتالي يكون من العبث الحديث عن حقها في تولي الرئاسة في الدولة).
نستخلص مما تقدم:
ان المرأة تتساوى مع الرجل في إطار العدل والقسط. وليس من العدل انتقاص اي حق للمرأة في بيتها او في عملها.
ان الكفاءة ليست قصرا على الرجل، لأن القصص القرآني ووقائع التاريخ تثبت كفاءة للنساء وتفوقا لهن على الرجال.
ان من الظلم للأمة أن تحرمها من كفاءة المرأة، وهي نصف المجتمع . ويكفي ان الرجل يعيش عمره الأول في أحضان المراة يتشرب منها كيف يعيش بقية عمره التالي. فاذا كانت جاهلة خامدة فإن الجهل والتخلف سينعكس على المجتمع كله. واذا كانت مؤثرة فعالة فسيتحول بها المجتمع إلى طاقة من الحيوية والانطلاق.
وأخيرا فإن دين الله بريء من كل قول أو ثقافة تحوي الظلم والتخلف. والله تعالى أنزل القرآن وفيه كل القيم السامية، وعلينا ان نفهم القرآن بمصطلحاته وأن نتفهم تشريعاته من أوامر وقواعد ومقاصد، ونحتكم إلى القرآن في كل ما لدينا من ثقافات وتراث وقيم وتقاليد وعادات.
(يتبع يوم الثلاثاء القادم)
عالم أزهري رئيس المركز العالمي للقرآن الكريم


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.