يسود اليمن وبعض نخبه منطق غريب يقوم على تلبية الغزائز والانجرار وراء دعوة لا يدرك كثيرون معناها والنتائج التي ستوصل إليها.. لا يختلف اثنان من العقلاء في أن اليمن تمر بمرحلة حرجة وصعبة من تاريخها وتكاد تسقط في مستنقع الفوضى والعنف والاحتراب .. لقد اثنى العالم على صحوة الشباب وانتفاضتهم على الأوضاع البائسة وتراكم الأخطاء والفساد وغياب الحكم الرشيد .. فشباب الوحدة الذين نشؤوا وترعرعوا في ظل الوحدة هم من خرج إلى الشارع وطالبوا بإسقاط النظام انطلاقاً من وحي ثورة الشباب في تونس ومصر.. لقد استطاع الشهيد محمد البوعزيزي أن يحرر المواطن العربي والشباب العربي من الخوف ويقف في وجه الآلة القمعية البوليسية الأمنية التي اتبعتها كثير من الأنظمة في التعامل مع شعوبها وسخرتها لقمع طموحات الشباب وصادرت أحلام الأطفال.. فما كان من تلك الأفواه الجائعة والجموع الهائجة المظلومة إلا أن خرجت إلى الشارع لتعبر عن نفسها وتطالب بالإصلاح الحقيقي والجاد. مثلت مبادرة الأخ الرئيس الأخيرة استجابة للمتغيرات في الساحة اليمنية ومحاولة لاستيعاب مطالب الشباب في كل ساحات ومحافظات اليمن، وقد قامت تلك المبادرة على أربعة أسس وهي : تغيير الدستور اليمني بالكامل وإنشاء دستور جديد ، الانتقال إلى النظام البرلماني ونقل كافة صلاحيات الرئيس إلى الحكومة، الانتقال إلى الحكم المحلي وتشكيل أقاليم على أساس جغرافي واقتصادي، وتشكيل حكومة ائتلاف وطني والاتفاق على قانون انتخاب جديد.. تلك كانت مبادرة ومحاولة تستجيب للمتغيرات وتلبي مطالبات ساحات التغيير في كل ربوع اليمن للتغيير السلمي والجدي وبها إصلاحات جديدة وواضحة ومحددة وهي مبادرة قابلة للنقاش والحوار والتفاهم، لكن القوى السياسية ممثلة في الأحزاب السياسية والقوى الشعبية الممثلة في الشباب المعتصمين والمتجمعين في الساحات والميادين رفضت تلك المبادرة وخاصة أحزاب اللقاء المشترك التي رفضت النظر إليها قبل أن يجف حبرها، هذا الموقف المتسرع والعاطفي جعل العالم يراجع موقفه ويكتشف الواقع اليمني الخطير والمحبط للنخب السياسية والشعبية اليمنية. إن شعار يرحل النظام دون أن تكون هناك رؤية واضحة ومتفق عليها ومحددة الأهداف لما بعد الرحيل وكيفية هذا الرحيل والوصول إلى السلطة هل يتم عن طريق الصناديق والانتخاب والتداول السلمي للسلطة أم يتم عن طريق الدم والاحتراب وإحراق اليمن ومواطنيه؟! وما يطرح في الساحة من قبل النخب السياسية والنخب الشعبية أمر يثير الخوف وينشر الرعب بين أبناء اليمن وعند المراقبين الدوليين ويقلقل دول الجوار، ويرفض هذا المنطق العبثي المجتمع الدولي وكافة العقلاء فشعار ( يسقط النظام وبعد ذلك نتفق على من يحكم) كلام ساذج يعتريه تبسيط وتسطيح للواقع اليمني ويدعمه منطق مهزوز ويعتمد مرجعية قائمة على الغرور والقفز على المعطيات الاجتماعية والسياسية والدولية. لقد تفاجات هذه النخب السياسية والشعبية بموقف المجتمع الدولي والإقليمي فالولايات المتحدة التي يراهن عليها كثير من الأطراف في الداخل ويصرح بأنها تشكل غطاء داعماً له من خلال القرارات الدولية أعلنت بوضوح وحذرت هذه النخب من مغبة الاستخفاف بهذه المبادرة وضرورة التعامل الإيجابي معها وأن يتم التغيير بطرق سلمية وحضارية وديمقراطية وكذلك نحا الاتحاد الأوروبي ورفضت أي من دول الجوار تأييد موقف هذه النخب في إسقاط النظام وكفى. المشكلة الحقيقية في نظري تكمن في النخب المعارضة والرافضة لتلك المبادرة أكثر من أصحاب المبادرة أنفسهم، فعلى الرغم من إقرارنا بأن الحكومة والمؤتمر قد ارتكبتا أخطاء ودعمتا ممارسة أخلت بالدولة وأضعفتها إلا أن النخب السياسية والشعبية لا تملك نظرة واقعية وسياسية واضحة للأزمة اليمنية فهي تركب موجة الشباب المتظاهرين للوصول إلى السلطة وتعتبر أشلاء ودماء شباب الساحات قربانا للوصول إلى الكرسي بطرق وأساليب غير ديمقراطية ، المشكلة الحقيقية في اليمن أن شعار ( الشعب يريد إسقاط النظام ) المرفوع محاكاة للشعارات التي رفعت في مصر وتونس لا يتطابق ولا يتوافق مع الواقع اليمني ففي تونس ومصر توجد مطالب شعبية بإصلاحات حقيقية لم تستجب لها الأنظمة فكان السبب في رحيلها ثم أن كل القوى متحدة في مطالبها ، بينما الواقع السياسي والمشهد الحزبي في اليمن معقد فأحزاب اللقاء المشترك تريد نظاماً قبلياً توريثياً دينياً وهناك قوى تريد فك الارتباط وهناك قوى تريد تغييراً سلمياً وديمقراطياً وهناك قوى تريد دولة طالبانية وهناك قوى تريد دولة دينية سلفية وهناك قوى تريد دولة ممالك وسلطنات ومشايخ ، هذا التشظي في المواقف والطموحات والأطماع من قبل النخب الشعبية والسياسية والحزبية والاجتماعية يجعل العالم يرفض أن تتجه اليمن نحو الفوضى والفراغ ما لم يكن هناك اتفاق واضح ووجود مشروع سلمي وديمقراطي لاستلام السلطة في اليمن ويفرض التغيير بطرق حضارية وسلمية. ما قدمه الرئيس من مبادرة قائمة على الحوار وتداول السلطة بشكل سلمي وحضاري وديمقراطي هيو الأقرب إلى روح القوى الشعبية التي يمثلها الشباب في ساحات التغيير وميادين الحرية ومبادرة الرئيس هي اللغة التي يفهمها العالم، فالمجتمع الدولي له مصالح كبيرة جداً في اليمن نظراً لموقعها الجغرافي وهو يرفض الفوضى والعنف والفراغ وذلك أن اليمن إذا مرت بمرحلة فراغ وغياب للأمن فلن تتم الأمور كما يتخيلها بعض أصحاب المشاريع الكبيرة بل ستكون دوامة عنف وصراع داخلي بين أطراف متناقضة ومتصارعة وغير متوافقة وبين أطراف خارجية واستخباراتية لها أهدافها وأجنداتها الخاصة والمتقاطعة أصلاً مع مطالب الشعب اليمني ونخبه.. لن تنتهي أزمة اليمن ومشكلته بالتصريحات ولا بالاستجابة للعواطف والأمنيات وحتى لو حصل الاحتراب والحرب لا سمح الله فإن جميع الأطراف يجب أن تجلس على طاولة الحوار للخروج من حالة الاحتراب وتأسيس دولة ومشروع وطني وديمقراطي فالوقت لم يفت على الحوار كما تقول أحزاب المشترك وتخاطب العالم بذلك. * باحث وكاتب من حضرموت [email protected]