لاحظ الشابي في أساطير العرب وثنية جامدة وأوهاماً لا تعرف الفكر . وأساطير الأمم الأخرى مشبعة بالروح الشعرية الجميلة زاخرة بفلسفة الحياة الفنية- آلهة اليونان وأساطيرهم آراء شعرية يتعانق فيها الفكر والخيال فكل آلهة رمز لفكرة أو عاطفة أو قوة من قوات الوجود - وكل أسطورة صورة شيقة من صور الشعر صادرة من خيال قوي وإحساس فياض يشمل الحياة . جعلوا للحب آلهة وللجمال آلهة وللحكمة آلهة وللشعر والموسيقى آلهة فهم ينظرون إلى الوجود من خلال أساطيرهم نظرة فنية تحس بتيار الحياة يتدفق في كل كائن . الخيال الشعري والطبيعة في الأدب العربي يعمق الشابي وصفه للجمال في الطبيعة في نص نثري قريب إلى الشعر إلى أن يخلص للقول :) إن الجمال هو القسطاس العادل الذي ينبغي أن توزن فيه نفسيات الأمم وشاعريات الشعوب وإنه على حسب ما في الإقليم من جمال وروعة، تكون شاعرية الأمم . وللوسط الطبيعي عامة أثره الفعال في تكوين نفسيات الأمم وطبعها). .ويخلص إلى أن شاعرية العرب شبيهة كل الشبه بالوسط الطبيعي الذي نمت فيه وبحث الشابي عن وصف الطبيعة وحظ الخيال الشعري في الأدب بمراحله الجاهلية والأموية والعباسية و الأندلسية .واستخلص أن (الأدب الجاهلي والأموي خاليان من الشعر الذي تغنى بمحاسن الطبيعة وسحرها وما وجد على قلته وندرته يخلو من الخيال وما نجده من شعر الطبيعة فإننا لا نحس فيه روح الشاعر ولا نبض المشاعر وإنما صور يعرضها الشاعر بل يتناولها تناول القاص الذي لا يحفل بجلال المشهد وجماله - يصفه كما يراه دون أن يخلع عليه نبضا من شعوره ولا إشراقا من خياله ). لقد كان الأدب العربي في هذين العصرين خالياً من الشعور بجمال الطبيعة والحديث عنه، ما عدا أصوات ضئيلة خافتة . خلاصة القول : إن شاعرية العرب شبيهة كل الشبه بالوسط الطبيعي الذي نمت فيه . عاش العرب في وسط لا يعرف سحر الجمال الطبيعي لذلك لم يتحدث أدبهم عن هذا الجمال ولم يتحدثوا عن الطبيعة بلهجة المعجب المأخوذ، لأن الطبيعة لم تخلع على أرضهم من نضارة الحسن ما يحرك مشاعرهم ويفتح قلوبهم لتذوق الجمال وظل الأدب العربي على هذه الصورة إلى أن أطل العصر العباسي فتلونت الحياة الإسلامية بحضارات جديدة متباينة جمعت أجناسا وعادات وفكراً وطباعاً واعتقادات جديدة على الحياة العربية قبل الإسلام، وتحولت الحياة من شظف العيش وعنجهية البداوة إلى رقة المدينة، في هذا الوسط المترف شب ذلك الشعر الذي يتغنى بالطبيعة وأصبحنا نسمع شعر البحتري و أبي تمام شعراً فيه رقة وعذوبة، ظهر هذا التوجه في التغني بجمال الطبيعة دون أن ينتشر مثلما انتشر في العصر الأندلسي، ذلك أن وسط الأدب العباسي لم يكن من الجمال والروعة كما كان في بلاد الأندلس، التي انتشر فيها حتى كاد يخفي الأغراض الأخرى . والملاحظة المهمة التي خرج بها الشابي هي أن الشعر العباسي في وصف الطبيعة أعمق خيالاً وأدق شعوراً منه في الأدب الأندلسي رغم كثرته ورقي أسلوبه ودقة صوره ورغم جمال الطبيعة في بلاد الأندلس، وهذا الرأي موضع نقاش . ويضرب الشابي مثالاً على قوة الإحساس والصدق في وصف الطبيعة ببيت البحتري: أتاك الربيع الطلق يختال ضاحكا من الحسن حتى كاد أن يتكلما ! ويضرب مثالاً على عمق الشعور بالطبيعة قول ابن الرومي : إذا ما أعارتها الصبا حركاتها أفادت بها أنس الحياة فتأنس و شعر أبي تمام والبحتري وابن الرومي فيه من عمق الخيال ودقة الإحساس بجمال الوجود مالا نجده في الشعر الأندلسي .ولم يجد الشابي في تفسير هذا التناقض سوى انغماس الأندلسيين في البذخ والترف انغماساً أطفأ حرارة الشعور وأصبحت الطبيعة في حياتهم وسيلة من وسائل المتعة لا منبعا ملهما للإبداع، (كان الشعر الأندلسي رقيقاً طلياً ولكنه قليل الحظ من عمق الشعور ). كل ما قاله ابن خفاجة في وصف الطبيعة فيه براعة في الوصف وجمال في الأسلوب ولكنه يخلو من عمق الخيال شغلته اللذة واللهو عن الإفصاح عنه لا نجد حرارة العاطفة وعمق الإحساس رغم عذوبة التعبير ودقة الوصف . ويختار الشابي شاعرين غربيين ( لامرتين ألفونس) ( -1790 1869) رائد المدرسة الرومانسية الفرنسي و(غوته جوهان ) ( -1749 1832) الشاعر الألماني لإبراز نظرتيهما إلى الطبيعة وهي أعمق بكثير من نظرة الشعراء العرب الذين لم ينظروا إليها نظرة إجلال وخشوع وإنما نظرة مفتقرة للخيال الشعري ( لأنهم لم يشعروا بتيار الحياة المتدفق في قلب الطبيعة إلا إحساساً بسيطاً ساذجاً خالياً من يقظة الحس ونشوة الخيال ذلك الإحساس الذي يجسده شعر البحتري وأبي تمام). الخيال الشعري والمرأة في رأي الأدب العربي ينطلق من مقولة فلسفية هي (أن النفس البشرية قد خلقت من عنصر الحسن وجلبت من فن الجمال ) وانطلاقاً من هذه المقولة يعلل تعطش النفس البشرية إلى مظاهر الجمال . ويربط هذا الإحساس عند العرب الذي لم يكن لديهم إلا في المرأة ، تغنوا بمحاسنها وشببوا بمفاتنها فالعرب حسب قوله:(تجاوزوا في التغني بالمرأة كل حد حتى أصبحت اللحن الجميل في استهلال قصائدهم وهى بمثابة إلهة الشعر عند اليونان - لكن الشاعر العربي يصفها ليحدث عن منهل المتعة فنظرتهم لها مادية حسية ) أما تلك النظرة السامية التي يزدوج فيها الحب بالإجلال، والشغف بالعبادة تلك النظرة الروحية العميقة التي نجدها عند الشعراء الأوروبيين، فإنها منعدمة بتاتا أو كالمنعدمة في الأدب العربي كله، لا استثنى إلا الأندر الأقل، على الرغم من أن أكثره في المرأة لم يعرف الشاعر العربي تلك النظرة الفنية التي تعد المرأة كقطعه فنية من فنون السماء ... ولم يحاول أن يحس روحها الجميلة وما تحمله من معاني السعادة والحنان والأمومة هذه المعاني المقدسة في الوجود والشعراء العرب الذين تحدثوا عن جمال المرأة الروحي قليلون ولكنهم بارعون في وصف مفاتنها الجسدية . نظرة الأدب العربي إلى المرأة كنظرتهم إلى الطبيعة أو أدنى . لا سمو فيها ولا خيال . الشاعر العربي مجيد وبارع في وصف محاسن المرأة الجسدية، والنظرة الشائعة في الأدب العربي كله على اختلاف العصور، ويعمق الشابي رأيه بالقول : (لو تعمق الباحث في فهم الروح العربية، لعلم أن ذلك ليس من الغرابة في شيء، لان من طبيعة هذه الروح ألا تحيط بغير الظاهر المحسوس ) ويحلل أن نظرة الشعراء العرب للمرأة نظرة جائرة وتستحوذ على أدمغة العالم العربي كله .. و إن هذا الفكر لا يمكنه بحال، أن يبصر ما وراء جسدها من حياة عذبة ساحرة وعالم شعري جميل. ويضيف أن المرأة لم تنل في جميع الأعصر العربية، قسطاً من الحرية الحقة يمكنها من إظهار مواهبها. ويخلص إلى أن المرأة في الأدب العربي لم تظفر بنصيب من الخيال الشعري، ولو كان يسيرا، لأن النظرة إليها كانت مادية محضة . وفي تتبع الشابي الخيال في القص العربي، فهو يراه في شعر جميل بثينة ذلك الشاعر العذري العفيف الذي حسب رأيه كان شعره أكثره قصصياً رائعاً فيه من الفن والعذوبة، فيه وحدة قصصية رائعة، وفي شعر امرئ القيس ذلك الشاعر المستهتر بالحب، والقصص في الشعر غير مستقل بذاته ما يؤهله لمنزلة القصص الحقيقي. أما القصص الأدبي كفن مستقل معبر عما في الحياة من حق وفن والمراد منه فهم الحياة الإنسانية وذلك الذي يقصد منه سبر جراح النفس البشرية الدامية ، والقصص المتصل بالخيال الشعري . ويضرب الشابي مثالا للشعر القصصي قصيدة عمر ابن ربيعة ، تلك التي استهوت عذارى مكة وشبانها وحرم الكبار روايتها وهي القصيدة التي يقول في مطلعها : راح صحبي ولم أحي النوارا وقليل ، لو عرجوا أن تزارا ويرى أن ابن ربيعة جدير أن يسمى أبا الشعر القصصي لأنه هو الباذر الأول لبذرة هذا الفن . ويلخص أن حياة القصص في الشعر موجزة كعمر الورود . أما القصص في النثر، فقد ظهر مع أواخر العصر الأموي، عندما ترجمت قصص ألف ليلة وليلة، فقد ألفت من بعدها قصص ذات روح عربية . دون أن يكون لألف ليلة وليلة التأثير الكبير، إلى أن كان فجر العصر العباسي وبترجمة ابن المقفع كتاب كليلة ودمنة وكتباً أخرى من الفارسية، هذه التراجم بعثت روحا قصصية في الأدب العربي لم تكن فيه من قبل، فظهر فن المقامة التي عرف بها الفن القصصي انحطاطاً ولكنه نهض ونشط على يدي أبي العلاء المعري في (رسالة الغفران ) مثلت صورة من القصص الرائع وفيه من الصور الشعرية ما لا يوجد في غيره . ويعمم الشابي وينفي أن يكون القصص العربي من النوع الذي ينقد ويمحص ويسبر ويحلل، والقصص العربي إما يهدف إلى الإمتاع، وإما يضرب للمثل والحكمة، وإما يقصد به النادرة اللغوية والنكتة الأدبية ، ومن هذا التصنيف فهو ينفي أن يكون للقصص العربي نصيب من الخيال الشعري . وفي إبداء خلاصة رأيه في الأدب العربي ، فهو يؤكد فكرة كونه أدباً مادياً لا سمو فيه ولا إلهام ثم يستدرك الشابي بقوله :( على أنني حين أقول هذا الذي يراه بعض الناس خطيئة لا تغفر ) ثم يقر بإجادة الأدب العربي في وصف المظاهر البادية وتفوقه في هذا المجال على الآداب الأخرى ويقر بأنه كان في جميع عصوره أدباً حياً وفياضا وبعد وصف الشابي ملامح الأدب العربي عبر عصوره فهو يقر أنه لم يعد يلائم العصر الحاضر الذي تعيشه :(لم يعد ملائماً لروحنا الحاضرة، ولمزاجنا الحالي، ولميولنا ورغباتنا (..) لقد أصبحنا نتطلب أدباً جديدا نضيرا يجيش بما في أعماقنا من حياة وأمل و شعور ، نقرؤه فنتمثل فيه خفقات قلوبنا وخطرات أرواحنا وهمسات أمانينا وأحلامنا، وهذا لا نجده في الأدب العربي القديم .وفي مقارنته للأدب العربي بالأدب الغربي فهو يستخلص خلو الشعر القديم من الوحدة العضوية في التعبير وتشتت الأفكار في القصيدة القديمة والإيجاز في البيان، أما الشعر الغربي فيستقصي كل شيء ويعمق المشاعر). وفي ختام الكتاب يبسط الشابي ملامح الروح العربية مؤكداً ( أن كل ما أنتجه الذهن العربي ، في مختلف عصوره، قد كان على وتيرة واحدة ، ليس له من الخيال الشعري حظ ولا نصيب، وأن الروح السائدة في ذلك، هي النظرة القصيرة الساذجة، التي لا تنفذ إلى جواهر الأشياء وصميم الحقائق ). ويوضح أن الروح العربية خطابية مشتعلة، لا تعرف الأناة في الفكر فضلا عن الاستغراق فيه ، ومادية محضة لا تستطيع الإلمام بغير الظواهر ما يدعو إلى الاسترسال مع الخيال إلى أبعد شوط وأقصى مدى ، ولهاتين النزعتين المادية والخطابية الأثر الكبير في إضعاف ملكة الخيال الشعري في النفسية العربية ويعلل بقوله لا يمكن أن تجتمع الخطابة ودقة الإحساس في النفس إلا نادراً، لأن الخطابة تعتمد المزاج الناري والنظرة البسيطة والإلمامة القانعة ،ودقة الإحساس تستلزم المزاج الهادي والنظرة الطويلة المتدبرة والإحاطة الشاملة المتقصية .ويربط هذا بمنزلة الشاعر عند العرب، فهم لا يرونه رسول الحياة للضائعين ، بين لا يفرقون بينه وبين الخطيب في الدفاع عن عرض القبيلة، ولم يجعلوا مصدر إلهام الشاعر الوحي أو الآلهة بل جعلوا له شيطانا يلهمه شعره، ويرجع الشابي النزعة الخطابية في النفسية العربية إلى قسوة الطبيعة وجفاء البيئة، ويرجع المادية إلى شظف العيش. إن كتاب الخيال الشعري، نص نقدي قائم بذاته، وهو نص شاهد على شعر صاحبه وشاهد على الشعر عامة، نص يتوالج فيه النقد الذاتي والنقد الموضوعي .لقد صاغ أبو القاسم الشابي ( الخيال الشعري) كما يصوغ كل صاحب مشروع مشروعه ، ولم يكن فيه منسلاً من فيلق الشعراء، كتب الخيال الشعري وهو متلبس بالحالة الشعرية ، كما لو كان يقول شعراً في تنظيره للشعر، فجاء الخطاب النقدي أقرب إلى شعرية الخطابات منه إلى نثرية النقد . كانت مدارات هذا النص الشاهد وفي هذا النص الميثاق، الصورة الشعرية وهي جوهر الخيال الشعري، وهذا النص إذا أنزلناه في سياق حضاري، تجاوزا لحيرة صاحبه وقلقه المعرفي، فإن جوهر القضية هي تساؤل الشابي عن قيمة الأدب العربي القديم بالنسبة إلى الآداب الأخرى، وهذا التساؤل دليل على حيرة فلسفية. ولنا أن نعتبر ديوان أغاني الحياة ثمرة للخيال، وإن ما جاء في كتاب ( الخيال الشعري ) كاف لإيضاح مستنداته :(وما من شيء إلا وهو تأكيد على انسجام رؤية الشابي في ما قاله عن الشعر وفي ما صاغه شعراً، وهذه درجة المواءمة داخل العالم الشعري والوجداني لدى شاعرنا ) ( د .عبد السلام المسدي ) وإن حديث الشابي عن الخيال في شعره واتكاءه على استلهامه إنما كان ثمرة من ثمرات الخيال الفني الذي جاء في نصه النقدي ومن المؤكد أن الشابي في هذا الكتاب النقدي حاول خلق المناخ النقدي الذي أراد أن يقرأ فيه شعره، وما يمكن ملاحظته أن بحث الشابي في عناصر الخيال والأسطورة والطبيعة، من المباحث التي ما تزال تستحوذ على اهتمام النقاد، وأن ( الخيال الشعري ) هو الكتاب الذي حمل اسم الشابي إلى الشرق ولفت إليه الأنظار، وبهذا فقد عرف الشابي ناثراً وشاعراً، والغالب على الظن أن الشابي كان يترسم خطى العقاد حين حاول أن يتجاوز موقع الشاعر إلى الباحث في ماهية الشعر.