كانت الليلة مظلمة إلى حد الرعب... والعاصفة كانت هوجاء ... و آخر بصيص من أمل الحياة توارى مع آخر خيط من ذبول الأصيل ... فجأة تخترق أشعة نور حجب الظلام الدامس ... متحدية جبروت العاصفة لتحرك الأمل في نفس المسكين الذي ألقته الأقدار في مجابهات لايدري أولها من آخرها ... لم يصدق عينيه عندما رأى أطفالاً وشيوخاً .... أحياءً وأمواتاً .. هل ما زلت في عالم الإنسان ؟ تساءل بخيبة وألم !! أراد أن يطلق العنان لساقيه لكنه تذكر أنها فرصته الوحيدة للحياة .. إنها أحوج منه إلى منقذ !! كانت شاحبة الوجه ... غارقة العينين ... هزيلة القوام ... غسل البؤس كل أثر لرغد عيش تركت بقايا أطلاله بصماتها على (قسمات) محياها الشاحب منذ عهود الشباب الخالية .. قدمت له كأس ماء ليشرب بعد طول عطش ... تناول الكأس من يدها المرتعشة ! احتسى الماء ورمى نظرة حوله ليشهد عالماً من المتناقضات يضيق عن استيعابه الخيال !! فالأم كانت تمسك سراجاً ظل مشعاً رغم كل شيء ... كأنه يحثها على الاستمرار في الحياة رغم كل ما تعانيه فتضمد جراح طفلها الذي كان خده الأيمن يسيل دماً والأيسر معرضاً وكأنه يطلب نصيبه من العذاب !! بينما كان طفلها الآخر جثة هامدة على الأرض ... مسجى بثيابه البيضاء ... وبيمينه قبض على حجر كأنه أًصر على صحبته حتى إلى العالم الآخر ... أشخاص في زهرة الحياة يلعبون ويمرحون ... وآخرون ( دماؤهم) تسيل على الأرض .. وموتى ممزقة أشلاؤهم .. أي عالم من المفارقات أعيش ؟؟ تساءل في نفسه بصمت !! لاشك في أنه أخطأ الطريق فقد كان قرر أن يهجر ذلك العالم المليء بالتعسف ... بالظلم .. بالدماء ... عندما صمم مع نفسه على البحث عن ذاته .. عن هويته ... عن دوره في الحياة ... فإذا به يستجير من الرمضاء بالنار !! . وفجأة حطم جدار الصمت صوت الأم تطالبه بالرحيل!! لتقطع سيل التساؤلات الجارف الذي بدأ يغمر نفسه ... فقد باتت غارة العدو على الأبواب وعليه أن يغادر المكان في الحال ... الحت عليه فاستسلم لطلبها وأدار ظهره ليغادر المكان وقد حمل على حمله المزيد من الهم والألم والغضب من الحياة لكن أسئلة ما زالت تحز في نفسه من تلك اللحظات التي أمضاها مع تلك الأم المسكينة لم يجد لها أي جواب !!. من هي تلك المظلومة المخذولة ؟! كيف يلهو ويمرح أولئك الآخرون رغم ما يحيط بهم ؟! ... أي عجز هذا ؟ حتى عن الإنكار بالقلب !! وعند خروجه من تلك الأطلال العافية استوقفته على يمين الطريق لوحة كتب عليها : ( أنت الساكن رقم : مليار لمدينة " أمة الوهن والدموع " ) عاد أدراجه ليرى الأم تضيق ذرعاً بعودته خوفاً عليه من الأعداء .. بادرها قبل أن تنبس بكلمة : أماه لا تجزعي فأنا أبنك إليك أعود .. وعنك أدفع وأمسك السراج. 13 / 12 / 2007م