لا يختلف اثنان أن المطاعم هي المكان الطبيعي للشاورما وليس نقاط التفتيش والعبور التي زرعتها القوات الإسرائيلية عند مفارق طرق الأراضي الفلسطينية العربية إمعانا في إرهاق الفلسطينيين بسلسلة من الإجراءات الأمنية في إطار عمليات التعذيب النفسي لهم بدعوى الحفاظ على الأمن الإسرائيلي. لفت انتباهي أثناء مشاهدة تقرير إخباري معتاد على إحدى القنوات الفضائية العربية رواية مواطن فلسطيني يحكي خلالها مأساته اليومية التي يلاقيها عند المرور عبر واحدة من نقاط التفتيش الإسرائيلية. يجسد المشهد على الأرض كما تنقله الفضائيات عما يحدث عند نقاط التفتيش منظر جندي إسرائيلي واقف بشعره الأصفر المقصوص حتى المنبت وعينيه الزرقاوين وأكتافه العريضة التي تعلن للقادم المسكين عن الحالة الصحية التي يفتقر إليها مليارات الفقراء في العالم والمدفع الرشاش المعلق بالكتف الجاهز للاستخدام في أي لحظة وفي المقابل مواطن فلسطيني نحيل تكشف ملامحه عن إرث ثقيل من المعاناة والشقاء ولكن عينيه رغم كل الظروف تلمعان ببريق التحدي المغلف بالأمل. يقول الجندي الإسرائيلي المدجج بالسلاح للفلسطيني النحيل الأعزل من كل شيء فيما عدا نظرات التحدي والإصرار على السير حتى نهاية المطاف: شاورما في هذه اللحظة ظننت بطيبة قلب المواطن العربي البسيط أن الجندي الإسرائيلي يريد من المواطن الفلسطيني "سندوتش شاورما" على سبيل الرشوة كي يسمح له بالمرور عبر نقطة التفتيش. وقبل أن يسيل لعابي مع رائحة الشاورما المنبعثة من مطعم مجاور.. استفسر المراسل التلفزيوني عما يقصده الجندي الإسرائيلي بلفظ شاورما.. وهنا سارع الفلسطيني إلى إزالة كل سوء فهم قد يطرأ على ذهن المراسل قائلاًً: إن هذا يعني أن الجندي الإسرائيلي يريد مني أن أدور حول نفسي عدة مرات تماماً كما تدور لحمة الشاورما الملفوفة حول قضيب الحديد لتأخذ نصيبها من النار.. والهدف هو الاطمئنان أن الفلسطيني لا يحمل سلاحاً من أي نوع خلف ظهره. عندئذ جف لعابي الذي كان قد سال مع ذكر لفظ شاورما.. وأسرعت إلى زجاجة المياه لأخفف بها آثار هذا الموقف محاولاً نسيان الشاورما بمفهومها الذي نعرفه. سألت نفسي: هل يختلف أسلوب الجندي الإسرائيلي مع المواطن الفلسطيني عن سلوك المفاوض الإسرائيلي مع المسؤول الفلسطيني؟ توصلت إلى الإجابة هذه المرة سريعاً: أن جوهر السياسة الإسرائيلية واحد. في الميدان أو على طاولات المفاوضات والمراقب لما يجري على هذه الطاولات الممدودة منذ سنوات ربما يتفق معي في أن أساليب السياسي الإسرائيلي تجبر المفاوض الفلسطيني على الدوران حول نفسه عدة مرات بصورة لا تختلف عما يفعله الجندي الإسرائيلي مع المواطن الفلسطيني عند نقاط التفتيش بهدف إرهاقه ودفعه إلى القبول في النهاية بلاشيء. حاولت أن أجد لنفسي بصيص أمل يعيد قدراً من الثقة بأن الفلسطيني سيجد يوماً أرضاً خالية من نقاط التفتيش الإسرائيلية لايضطر فيها إلى الدوران حول نفسه مثل الشاورما.. ونزلت على الفور إلى المحل المجاور لمنزلي وقفت أمامه طويلاً.. أرقب العامل وهو يقطع لحوم الشاورما ويدسها في أرغفة الخبز للزبائن وأنا لست منهم مرات ومرات إلى أن انتهت كل كمية اللحوم الملفوفة حول القضيب الحديدي الذي ظل منصوباً وسط النار.. عندئذ قلت في نفسي: هذا هو المواطن الفلسطيني العنيد الذي ستبقى عظامه صامدة شامخة وإن أكلت النار والناس لحمه. * مراسل وكالة أنباء الشرق الأوسط المصرية بصنعاء.