أكثر شريحة معنية بتجاوز الاكتفاء بالتأمل الصامت في الحالة اليمنية الراهنة هي شريحة المثقفين والأدباء. غير أنهم تركوا الساحة خالية إلا من أحزاب تتقاسم الغنائم على جثة ما تبقى من وطن. هذا الذي لم تعد صورته في مرآة الواقع المعاش تشبه تلك الصور المحفورة بعاطفة مشبوبة في أناشيد الثورة والاستقلال، وفي قصائد جرادة والبردوني ولطفي أمان والمقالح والقرشي عبد الرحيم. وإذا كان "الساكت عن الحق شيطان أخرس" فإن المثقف الساكت في مثل هذه الظروف يتجاوز حالة الخرس والشيطنة إلى السمسرة بالمواقف واستلام ثمن السكوت من أيادي من يصنعون الفشل ويربون الفجيعة في قلوبنا على وحدة ناجزة توشك عراها أن تنفصم على يد التغابي وعبر استنكار لهفة الناس في شق من البلاد على ضياع مصالح لا تخص فئة أو جماعة تتشح بالنرجسية، بل تخص شرائح شعبية واسعة، هي في مجموعها وفي خطورة تنامي غضبها تعادل ما ترى فيه البلدان الرشيدة معياراً واضحاً يكشف عن اختلال حقيقي لا يقبل التجاهل والإنكار. ولسنا بحاجة للعودة إلى التاريخ القريب، لإثبات الدور المحوري الذي لعبه المثقفون والأدباء في اليمن طوال نصف قرن مضى، لأن الواقع المأزوم الذي نمر به الآن لم يعد يتطلب البحث عن مشروعية من الماضي تجيز للمثقف التفاعل والمشاركة في البحث عن الحل، أو على الأقل الخروج من دائرة الصمت والاعتراف بحزمة المشاكل التي تواجهنا، لدرجة أن العالم من حولنا يوشك أن يعلن الوصاية بالتدريج على ما كان الحالمون يصفونه بالوطن "العزيز وإن جار"، وها هو – أي الوطن - يستحيل إلى مساحة مشتعلة لا تكف عن إذكاء الرغبة في الرحيل وترك الجمل الذي لم يعد يحمل سوى صرة مليئة بالوهم وخطابات جاهزة للتخوين وتقزيم الأخطار. يصمت المثقفون، بل ويذهب بعضهم إلى الاتساق مع مواقف الحكومة المغلوبة على أمرها، والمستسلمة لرياح تهب على سفينتها من جهات لا تشتهيها، وفي ظل الترتيبات التي تدار من خارج اليمن، ومن دون أن يكون لدى اليمنيين اطلاع مؤكد على السقف الذي ستصل إليه تلك الترتيبات، يحاول الإعلام الرسمي إفهامنا بلغة مرتبكة أن العاصمة البريطانية إنما ترتب لمؤتمر معني بحشد الأموال والمنح الإنقاذية، وفي غياب جدول أعمال محدد لمؤتمر لندن، يصبح الحديث على هذا النحو مجرد أمنيات. ولا يعي الرسميون أن إبداء القلق تجاه ترتيبات لندن حق مشروع لكل مواطن، وأن هذا القلق لا يقبل المزايدة ولا يخضع للمناكفات. كما لا يعي الرسميون وبعض المثقفين الصامتين مدى تأثير ما بثته وسائل الإعلام العالمية خلال الشهرين الماضيين، وتكرارها للتوصيفات حول مؤشرات الدولة الفاشلة، وكيف أن المتابع المحلي وغير المحلي معني بالضرورة بالربط بين هذه التوصيفات وبين الحرب على الإرهاب والحديث عن إمكانية التدخل العسكري في اليمن من عدمه وبين مؤتمر لندن. وفي كل الأحوال يظل المثقفون هم الغائب الأبرز عن هذه التطورات وعن الدعوات الرسمية للحوار، وهم الذين يغيبون أصواتهم بصمتهم الذي طال وبتفرجهم على الأحداث من بعيد، أو من وراء ستار الأحزاب أو الوظائف أو الكراسي التي عطلت إبداعهم ومواقفهم.