مسكين هذا الإنسان، فمزاجه متقلب ولا يرضى بشيء، هذا إذا لم يكن قلوي المزاج على الدوام. فهو دوماً يسعى للبحث عن الكيف، سواء كان ذلك الكيف بالصالح أو الطالح. فعندما لا يجد الشيء الذي يبحث عنه، نراه في حالة من الضيق والاكتئاب والعصبية، فقد نرى أن بعضاً من هؤلاء البشر يحلو لهم الخروج عن الطبيعي والمألوف فهم يجدون السعادة في ذلك، كأن تجد شخصاً يبحث عن السبل المناسبة للانحراف بل ويعمل على اصطيادها صيداً للعمل بها. فإذا كان قد تربى على الانحراف وعاش على الانحراف ويجد راحته في الانحراف ولم يجد البيئة المناسبة للانحراف سواء في مكان إقامته أو مكان عمله، عمل على اتهام الآخرين بالتقصير معه أو بمضايقته ويعمل على خلق مشاكل كل يوم والآخر. فإذا وجد نفسه في بيئة تقيده عما يستمتع به، يجد نفسه مخنوقاً، فهو كمن يعيش في قالب غير ملائم أو كالمتنكر في جلد شخص آخر، تراه سرعان ما يضيق به. فإذا كان الانحراف إحدى مفردات الحياة العصرية الجديدة شخصياً لا أحمل الحياة العصرية من ذلك شيئاً وكانت الظروف المحيطة التي نبحث عنها لها معاييرها ومواصفاتها الخاصة كأن تسمح لنا بإطلاق الضحكات الصاخبة المهيجة وتوفر البيئة الخصبة للأهواء الآثمة والتخيلات الجنسية المثيرة، ولم يكن بالمقدور الحصول على ذلك في البيئة التي نحن فيها، فلِمَ لا نبحث عن تلك الظروف ونلهث وراءها ونلعن البيئة التي نحن فيها ونعمل على تركها واعتزالها. قد يقول القائل لكن هذا هو من باب الانحراف ومن باب الخروج عن المنطق. وأنا أرد عليه: وهذا ما نسعى إليه؟! فلِمَ لا يكون هذا هو مشروعنا القادم، إذا كنا نتهم بأننا إذا تمسكنا بالمنطق نكون من الضالين. يا ترى هل هناك تغييب للمنطق أم أن القيم والمعايير الأخلاقية تآكلت ولم يعد منها إلا النزر اليسير الذي يقتات عليه بعض الشرفاء (الشرفاء المتأرجحون بسبب المغريات لا يثبتون دائماً) أم أن هذا هو الواقع وأن الحال الذي عليه أصحاب العصرنة هو الصحيح والمنجي من النار، وما لتلك الفئة الضالة عن سبيل "الرشاد" عفواً "الانحراف" فالمفاهيم قد تغيرت إلا الحظ العاثر من الحياة العصرية فهم لا يمتون للحياة العصرية ولا للحياة بذاتها بصلة. فإذا كنا نرغب جدياً في الشروع في مشروعنا المزمع، فالأمر ليس بتلك البساطة، فهو يتطلب منا أهدافاً وعناصر ومكونات يتم وضعها لكي يكون مشروع انحراف حقيقي وفعال. المطلوب منا إذاً ترك أعمالنا لنرضي ذلك الإنسان الذي ضاق بنفسه ذرعاً ولم يجد ما يمتعه ويسليه. تخيلوا إذا غاب مفهوم القيم وأصبح كل الناس معاصرين وسواسية. سيكون من (البديع جداً) العيش كمنحرفين ومع المنحرفين.