لعلّ روعة فيلم The Pursuit of Happyness ، للممثّل العالميّ (ويل سميث) ، لا تكمن فقط في أسطورة العناق ، التي جسّدتها تلك القصّة الواقعيّة ، ما بين الإرادة الإنسانيّة الصلبة و الرغبة الحقيقيّة في تغيير الواقع الصعب ، كما أنّها ليست فقط في الاستماتة في إعطاء الفرص المتاحة أقصى بُعد و مدى لها ، بل و كذلك في الرسائل العميقة التي ترافعت بامتياز عن فئة السود في المجتمع الأمريكيّ . رجل أمريكي أسمر يشتري ، في خضمّ سعيه نحو الرزق ، آلات طبيّة باهظة الثمن رغبة في الاتّجار بها و بيعها للعيادات الطبيّة ، يفشل مشروعه و تتراكم الديون و الالتزامات الماليّة الخانقة عليه ، فتقرّرّ زوجته حينها الانفصال عنه تاركة له ابنهما الصغير .. يُطرد الأب و ابنه من بيتهما لعدم دفع الإيجار الشهري المتراكم ، يهيمون على وجوههم في الشوارع و محطّات القطارات و الحافلات . يتقدّم الأب لوظيفة من غير مردود ماليّ لمدّة أشهر ، حتى يثبت كفاءته كسمسار في البورصة بين عدد غير قليل من المتقدّمين لذات الوظيفة و ممّن يحملوا شهادات و خبرات تفوقه بأضعاف . تستمرّ الضغوطات عليه ، حتى ينجح في النهاية بمعجزة الإرادة الإنسانيّة التي لا يقف أمامها شيء ، ليتقلّد ذلك المنصب ، و ليصبح بعدها من أغنى شخصيّات المجتمع الأمريكيّ . فيلم دراميّ من الطراز الأوّل يتداخل مع تعليقات وثائقيّة من بطل الفيلم ، مستقى من قصّة الكاتب و المليونير الأمريكيّ الأسمر(كريس جاردنر) . و قد تمثّل ذكاء المخرج الإيطاليّ (غابرييل موتشينو) في عدم إيراده لأيّ مشهد ثراء للبطل بل كتابة نهاية القصّة بجملة واحدة "و قد غدا بطل القصّة الآن من أعلام الثراء في أمريكا" ، رغبة من المخرج في عدم بتر الانفعال و التعاطف الذي يبلغ ذروته عند المشاهدين ، لاسيّما في مشهد افتراش البطل و ابنه الصغير حمّام مترو الأنفاق عندما لا يجدان مكاناً يؤيهما حتى الصباح . و في مشهد آخر عندما تحتجز الشرطة لليلة واحدة بطل الفيلم لعدم دفعه إيجار المنزل ، فيضطّر رغبة في عدم إضاعة فرصة الوظيفة أن يذهب للمقابلة في الصباح التالي و هو بلباسه الملطّخ بالدهان الذي كان يطليه على جدران منزله قبل احتجازه . و في مشهد مشابه عندما يضطرّ إكمال يوم عمله و هو بفردة حذاء واحدة بعدما صدمته سيّارة و هو يعبر الشارع بسرعة فضاعت فردة حذائه على أثر رغبته الوصول على الوقت لعمله . مرافعة متميّزة ، بإشارات ذكيّة تصوّر الفروق الطبقيّة الرهيبة في المجتمع الأمريكيّ ؛ فمن عائلات تشتري مقصورات خاصّة لمتابعة مباريات (البيسبول) ، إلى عائلات لا تجد غير أسرّة الملاجئ لتؤيها في برد الليل و ظلمته . مرافعة للعرق الأسود أمام محاولات تنميطه و قولبته ، بل و حتى استعباده . كما تصوير حقيقيّ لأمريكا التي لازالت تمثّل أرض الأحلام بالنسبة للكثيرين ، غير أنّ أناساً يموتون هناك على قارعة الطريق ، فيما المارّة يمضون من غير إضاعة وقت لتقصّي السبب . دوّامة حياة طاحنة ، تغيب معها الراحة و السعادة ، دخول مرتفعة تقابلها ضرائب جمّة تستنزف هذه الدخول . يستحقّ فيلم ويل سميث كلّ التقدير و الاحترام ، فقصّته تقبع في أعماق كلّ منّا ؛ ننظر للابتسامة على وجوه الآخرين و نتقصّى عن سبب ملازمتها لهم فيما نحن و الحزن جيران . لنكتشف أنّ كلاً منّا يشعر بذلك ، فيما السعادة غير مطلقة كما نتصوّر ، و لا يمكن الإمساك بخيط من خيوطها من غير استنزاف جسديّ و نفسيّ كبير ، كيّ نتمكّن فقط من تأمين الحدّ الأدنى منها إن استطعنا لذلك سبيلاً . مع ويل سميث و رحلته نحو السعادة ، لا تملك إلاّ أن تطلق العنان لدموعك كيّ تنساب في أكثر مشاهد الكفاح و العصاميّة تأثيراً ، و في أكثر المرافعات الجريئة و اللبقة في ذات الوقت لعِرق تعرّض و لا زال للتهميش و القولبة . كم يتوق المشاهد العربيّ لرؤية أفلام عربيّة تزجّ قضاياه العالقة عبر قصص إنسانيّة أمام العالم ؛ فمن يملك أكثر منّا قصص كفاح و نضال و صمود و عصاميّة ؟ و لماذا نكتفي حين نعرض قصصاً ، لشخصيّات كانت في الأمس القريب فقيرة لتدلف بعدها عالم الثراء ، نكتفي فقط بتصوير أيّام الفقر و البؤس ، من غير التطرّق للمناخ السياسيّ العامّ الذي يلفّ المنطقة العربيّة و الذي يسهم بشكل أو بآخر في صياغة حياة كلّ فرد عربيّ ؟ و إلى متى سيظلّ المشاهد العربيّ يتذكّر في كلّ لحظة متابعة لفيلم عربي أنّه يتابع تمثيلاً لا واقعاً ، في حين ينسى ذلك إطلاقاً في الأفلام الغربيّة ؟ كيف لبطلة فيلم عربيّة أن تستيقظ من النوم أو أن تؤدي دور متسوّلة و هي تضع مكياجاً يصلح للسهرة ، فيما الممثّلة الأجنبيّة ترضى حتّى أن يُلطّخ وجهها بالطين في سبيل مصداقيّة المشهد التمثيليّ ؟ ختاماً ، ثمّة حقيقة لابدّ لنا من الاعتراف بها ، اتفقنا أم لم نتفقّ مع هوليود بممثّليها و أفلامها و توجّهاتها ، إلاّ أنّ لديهم قدرات تمثيليّة تفوقنا بأضعاف مضاعفة من موهبة ، لعفويّة ، لتقمّص رهيب لكافّة أبعاد و جوانب الشخصيّة المراد تمثيلها ، لذكاء حادّ في الترافع عن قضاياهم الإنسانيّة كقضيّة السود هناك .. و حتى لنمطهم المعروف في شحذ تأييد العالم و مؤازرته للحقيقة التي يريدون هم احتكارها ، و لو كنّا نحن أصحابها .. بيد أنّنّا نائمون ، فيما غيرنا يكدّ و يتعبّ لعرض قضاياه و قضايانا أمام العالم .. و حسب رؤيته الخاصّة .. * كاتبة أردنية: [email protected]