الملياردير روبرت مردوخ الأسترالي الأصل الأمريكي الجنسية لم يكتف بالسيطرة على أكبر إمبراطورية صحفية حتى العام الماضي بل أصر على الاستيلاء على أميرة الصحف الاقتصادية بمبلغ خمسة آلاف مليون دولار، ويُقال إنه قبل العرض عبر الهاتف في نيويورك، ولم يبق أمامه سوى شراء جريدة «نيويورك تايمس» الأشهر في العالم باللغة الإنكليزية وإما إجبارها على الإغلاق. وإذا ما أجبرها على ذلك فإن الولاياتالمتحدة ستخسر سيدة صحفها اليومية الليبرالية لأنها غير منحازة لأي حزب أو عقيدة معينة، وإلى عهد قريب كانت «التايمس» مؤسسة مزدهرة تملكها أسرة ولا تباع أسهمها في البورصة. اكتفى مردوخ مؤقتاً بالجورنال وسعى إلى إضعاف التايمس بهدف إبعادها عن الساحة واحتكار القمة في أمريكا كما فعل قبل ذلك في أستراليا وبريطانيا ودخل أسواق أوروبا وفلسطين –فهو يهودي الديانة– والهند وغيرها من الميادين لأنه كان يمتلك ثروة طائلة حتى الشهر الماضي عندما اهتزت أسواق التوزيع والإعلان ومعها إمبراطوريته. والواقع أن الصحافة باتت تعاني كثيراً من نقص الإعلان وتدهور التوزيع المقروء بشكل ملحوظ ليس فقط في أمريكا وأوروبا واستراليا بل حتى في البلاد العربية والآسيوية والإفريقية. يقول السير مارتن سوريل رئيس مجموعة دبليو ب.ب. الإعلانية: «لقد اضطررنا إلى الانكماش، وسنتأخر في اللحاق بركب الانتعاش، وإجمالاً الأمور صعبة للغاية»، ويبدو أن ميزانيات الإعلانات هي من ضمن أوائل الأشياء التي يتم تخفيضها حين تسوء الأمور مع أن هذا غالباً يفرض تكاليف أكبر على الشركات على المدى الطويل لاستعادة ما فقدته، وقد توقعت المجموعة أن يكون العام الحالي صعباً ووضعت ميزانيتها على أساس انخفاض بنسبة اثنين في المائة في الإيرادات، إلا أن هذه النسبة تبدو الآن متفائلة للغاية، بعد الانخفاض على أساس سنوي بلغ حوالي ستة في المائة في الربع الأول. والأمور تبدو أسوأ في أمريكا وزادتها نتائج الملياردير مردوخ سوءاً فقد انخفض إجمالي الإنفاق على الإعلانات بنسبة تزيد على عشرة في المائة في الربع الأول. والتوقعات أسوأ. وتقول مجلة الإيكونومست المعتمدة: إن إجمالي الإنفاق على الإعلانات سينخفض هذا العام في أمريكا بنسبة 15 في المائة من 190 مليار دولار إلى 160 مليار دولار. وتواصل المجلة قولها: إن الإعلان في المجلات –بعضها أغلقت أبوابها– انخفض بنسبة 18 في المائة، وفي الإذاعات 21 في المائة وفي الصحف 27 في المائة. وبطبيعة الحال ستعاني وسائط الإعلام في بقية أنحاء العالم باستثناء الصين والهند والبرازيل لأسباب متفرقة، من هبوط حاد في مداخيلها الإعلانية مما قد يضطرها إلى الإغلاق. وقد أعلنت جريدة «لوس أنجليس تايمس» الثانية في أمريكا عن إفلاسها إلا أنها لم تغلق أبوابها بعد وأعلنت جريدة «الجارديان» الشهيرة في بريطانيا وأكثر الصحف ليبرالية عن خسائر فادحة نسبياً –حوالي تسعين مليون جنيهاً إسترلينياً في السنة الماضية– مما قد يضطرها إلى التفكير جدياً في مصير جريدتها الأسبوعية «الأوبزرفر» التي تبلغ مائتين وعشرين عاماً ما يجعلها أقدم أسبوعية في العالم أجمع. كل ذلك يعني أن الصحافة بأنواعها من اليوميات إلى المرئيات تواجه واحدة من أعنف أزماتها في القرن الحالي وقد نسمع قريباً عن انتهاء نسبة منها لأن مداخيل الإعلانات قد لا تعود بسهولة وسرعة، وأغلب الظن أنها ستنخفض، ولأن التوزيع في الغالب لا يغطي نفقات الصحف فإنها ستضطر إلى الإغلاق خلال الأعوام القليلة القادمة، وماذا بعد ذلك؟ هل هذا يشير إلى تحول جسيم في مستقبل الإعلام بأنواعه كما شهدنا ازدهاراً كبيراً فيه في القرن الماضي عندما كان زبائن الصحف المرموقة يتنافسون ليضمنوا مواقع لإعلاناتهم بأسعار عالية وصلت في أمريكا إلى عشرات الألوف من الدولارات للصفحة الواحدة ذات الألوان الأربعة، ذلك عصر قد لا يعود سريعاً بتعدد وسائل الدعاية والإعلان خصوصاً بالنسبة للمجلات والأسبوعيات التي بدأت تتلاشى وقد تليها اليوميات وإعلانات الراديو ثم التليفزيون بعدما لعب الإنترنت دوراً فعالاً في تخفيض الاتجاه نحوها، ومع ذلك يُقال حالياً : إن الدعاية الضخمة للإنترنت كانت مبالغاً فيها لأن نسبة الدخل الإعلاني ترنحت ولم يعد إعلان «الأون لاين» أو الإنترنت يزداد بالوتيرة التي شاهدناها في بداية الظاهرة الإلكترونية. إلا أن مردوخ لا ينوي الاستسلام بسهولة بعد أن مني بالخسائر الفادحة التي أعلنها والتي أتت بعد قيامه بشراء جريدة وول ستريت جورنال بخمسة مليارات دولار وبدأ يهدد جارته نيويورك تايمس كما تقدم. لهذا أعلن بأنه سينتقل إلى مرحلة جديدة وهي إعلان نهاية الإعلانات إلكترونياً المجانية التي كنا ولا نزال نقرأها على مدار اليوم أو متى شئنا بدون شراء جرائده, لذلك فإنني شخصياً لم أدفع قرشاً واحداً لشراء إحدى جرائده التي كنت مولعاً بها قبل عصر «الأون لاين» ومنها «التايمس اللندنية» التي تجدد أخبارها باستمرار كما تفعل صحف أخرى ومنها «الجارديان» التي لا تتوقف. «إن الصحافة الجيدة ليست رخيصة» كما يقول لذلك سيضطر قارئ جرائده المائة إلى تسديد ولو جزء بسيط من تكاليف جمعها لأنها بعكس الصحف الحكومية تتكبد مصاريف تزداد باستمرار لتعطي القارئ أفضل ما يمكن من أخبار وأشجع ما تقدر عليه من تعليقات, ولكن يظل السؤال الأصعب والإجابة عليه, هل سيعود القراء الذين اعتادوا على تلقي أخبارهم مجاناً خلال السنوات العشر الأخيرة، إلى دفع اشتراك شهري لقراءتها أم أنهم سينتقلون عنها إلى وكالات الأنباء التي تأتينا عبر الإنترنت مجاناً تقريباً؟ فهل صحف مردوخ أهم وأعظم من الوكالات مثل رويترز والفرنسية وأمثالهما, وهل هي لا يستغنى عنها؟ الإجابة "الصعبة" هي أن مردوخ قد يخطئ الحساب وأن القراء الملايين الذين اعتادوا على الدخول إلى مواقعه أون لاين قد يتجاهلون صحفه ومع المدى قد يعني ذلك بداية النهاية لأكبر إمبراطورية صحفية في العالم كما انتهت أمثالها من قبل نتيجة لمعاناتها من ضرباته القاسية التي سددها في وجوهها وأحدثها نيويورك تايمس, أغلب الظن أنه قد يسير نزولاً في نفس الطريق التي رسمها لغيره من قبل.