تتجه الأنظار اليوم إلى الأراضي المقدسة، وتحديداً إلى جبل عرفات الله الذي سيشهد وقوف ثلاثة ملايين من حجاج بيت الله الحرام على صعيده الطاهر ملبين مهللين "لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك..." في مشهد نادر تذوب فيه كل التمايزات والألوان والفوارق، وتتوحد فيه القلوب والغايات تحت هدف واحد هو مرضاة الله وطلب المغفرة منه. وفي مشهد كهذا دلالة بينةُ وقوية وراسخة على أن وحدة الأمة، ليست فقط مقصداً من مقاصد الإسلام بل أنها فريضة من فرائضه الأساسية، وأصل من أصوله المتصلة بالإيمان والعبادة وتأدية الشعائر. ولعل ذلك ما يمكن استلهامه من موجبات صلاة الجماعة، وموجبات وقوف حجاج بيت الله الحرام على صعيد عرفات بملبس واحد ومشاعر واحدة ويهللون بصوت واحد، «لبيك اللهم لبيك»، مجسدين حقيقة أن الوحدة بالفعل مرتكز من مرتكزات جوهر العبودية لله. وصدق فقهاء الدين وعلماء الإسلام، من أصحاب العقول النيرة حينما قالوا بأن في إقامة الوحدة إقامة للدين، وفي التفرق هدماً للعقيدة، مستدلين على ذلك بما جاء في القرآن الكريم في قوله سبحانه وتعالى: "وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ" وبتدبر هذا المعنى سنجد أن فريضة الحج إنما هي التي تعيد التذكير بهذا المقصد الذي كان من مقاصد كل الأديان السماوية عبر الأزمنة والحقب، وهو ما أكد عليه القرآن الكريم بقوله تعالى "شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيه". وفي هذا النص القرآني ما يدعو إلى التمسك بالوحدة وما ينهى عن الفرقة والدعوات الجاهلية التي عادة ما يرفعها شياطين الجن والإنس، الذين استبدلوا حبل الله بحبل الشيطان. وهم من قال فيهم سبحانه وتعالى في محكم كتابه "كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاء وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ". وبالتالي فقد أراد الله سبحانه وتعالى أن تكون فريضة الحج بمثابة العظة والعبرة لأبناء الأمة الإسلامية وبما يصلح شأنهم ويوحد صفوفهم ويهيئ لهم سبل الرشاد والمنعة، وهو ما ينبغي عليهم الاسترشاد به خاصة في المرحلة الراهنة التي تكالبت فيها التحديات والمؤامرات على أمتهم على نحو صارت فيه هذه الأمة عرضة للاستهداف الذي ينال منها كل يوم ليضعف فيها مكنون قوتها ومقومات حيويتها ومفردات التمكن والاقتدار والتأثير في عالم اليوم. ومن هذا المنظور تتجلى أيضاً الكثير من الوقائع في العصر الحديث والتي تُظْهِرُ تماماً أن المجتمعات والشعوب الناهضة اليوم لم تصل إلى ما وصلت إليه من قوة اقتصادية وعلمية إلاّ بالوحدة، وأن الأمم والشعوب التي انهارت وأصابها الضعف والوهن لم يكن ذلك ليصيبها إلا بسبب تخليها عن وحدتها وسقوطها في مهاوي التمزق والتشرذم والتشظي ومثل هذه الحالة ليست بعيدة عنا في اليمن، فقد عانينا من مرارة التجزئة والفرقة وكابدنا مآسيها وويلاتها وكوارثها وتجرعنا من كؤوس صراعاتها الدامية والمؤلمة إلى أن قيض الله لهذا الوطن زعيماً مخلصاً وقائداً محنكاً وحكيماً وحدوياً بفطرته، ووحدوياً بثقافته، ووحدوياً بعمقه الفكري والديني والإنساني، جعل إعادة لحمة الوطن على رأس أولويات اهتمامه، فعمل بكل دأب وإخلاص وصدق من أجل إنهاء تلك الوضعية الاستثنائية التي قاومها أبناء شعبنا دون هوادة بعد أن فُرضت عليه عنوة من قبل الإمامة والاستعمار وذلك انطلاقاً من محافظته على تماسكه الاجتماعي ورابطته الوطنية ليتوج مسيرة نضاله في إنجاز هدفه الكبير حلم الأجيال في ال22 من مايو عام 1990م. وإذا ما استوعبنا كل تلك المعاني الدينية والوطنية فلابد وأن نقف على حقيقة أننا كيمنيين قد انتصرنا لذاتنا بالوحدة وانتصرنا بالوحدة لديننا وعقيدتنا الإسلامية ولتاريخنا النضالي وإرثنا الحضاري لنُقدم الأنموذج والقدوة لأبناء أمتنا العربية والإسلامية، ونعيد إليهم التفاؤل بإشراقة جديدة تزول فيها الحدود المصطنعة بين أوطانهم وتحقيق أمانيهم في الوحدة التي أضحت مطلباً شعبياً حقيقياً على امتداد خارطة الأمة التي يتعين عليها اليوم وهي تتابع وقوف حجيج بيت الله الحرام على صعيد عرفات أن تقف مع نفسها، انطلاقاً من ذلك المشهد الرباني حتى تنهض بنفس الدور الذي نهض به أسلافها، وتبرهن على أنها بالفعل ما زالت أمة حية وقادرة على تجاوز موروثات عصور الانحطاط، التي أنْستْها أن الوحدة قد اقترنت بالاعتصام بحبل الله، وكذا قول الله سبحانه وتعالى "إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ" وما في هذه الآية الكريمة من تلازم وثيق بين وحدة الصف ووحدة العبادة للواحد الأحد سبحانه وتعالى. فهل نتعظ من كل هذه الدلالات وتستفيد من المغزى العميق لوحدة الحجيج على صعيد عرفات الله؟!.