يقف اليوم، في جو إيماني عظيم يغلب عليه اللون الأبيض، ما يقارب مليوني ونصف حاج على صعيد عرفات، مبتهلين إلى الله عز وجل أن يغفر ذنوبهم ويتقبل حجّهم، ويمحي سيئاتهم، مرددين بصوت واحد وفي هيئة واحدة “ لبيك اللهم لبيك.. لبيك لا شريك لك لبيك” متدثرين بالرغبة والدعوات في أن تمحى ذنوبهم وأن يعود العائد منهم كيوم ولدته أمه، يحلمون برؤية هذا المنظر المأمول الذي لا يتكرر إلا مرةً واحدة كل عام وربما مرةً في العمر, يستمعون بإنصات بالغ لكل ما يدور حولهم أملاً في تسجيل كل اللحظات الهامة من عمر هذا اليوم الذي يقضونه على جبل الرحمة.. ويقضي ضيوف الرحمن يومهم على صعيد عرفات، حيث يؤدون صلاتي الظهر والعصر قصراً وجمعاً، قبل أن ينفروا من عرفات إلى مزدلفة مع مغيب شمس هذا اليوم..إن هذا اليوم لهو مشهد من المشاهد التي تحيي القلوب الميتة وتوقظ العقول الغافلة يتذكر المسلمون وصايا نبيهم صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع تلك الوصايا العظيمة الجامعة لخير الدنيا والآخرة، وجّهها عليه الصلاة والسلام لأمته في يوم عرفة، ومما قاله في خطبته الجامعة: “ إن دماءكم وأموالكم حرام عليكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا.. وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به: كتاب الله..” كلمات جامعة أسمعها النبي صلى الله عليه وسلم أمته في أعظم يوم وأعظم شهر وأعظم مكان لتبقى حرمة المسلم مصانة لا يجوز انتهاكها ولا إهدارها ولا تضيع شيء منها. هنا في صعيد عرفات امتزجت الأرواح وتقاربت القلوب.. لتتجلى للعالم أجمع أسمى معاني الإخاء والوحدة بين المسلمين.. فعلى صعيد عرفات.. موقف واحد موحد، تلاشت الفوارق الاجتماعية والوظيفية وتتوارى الخلافات ويخفت صوت الطائفيات والمناطقيات وتساوى الكل هناك.. فلا فرق بين عربي وأعجمي إلا بالتقوى، نعم في يوم عرفة يلهج الجميع بلسان واحد، طلباً للقبول والغفران، والتجاوز عن كل الذنوب والآثام والعصيان، حينما ترى العين ذلك الجمع الحاشد لأبناء أمة الإسلام، تقفز إلى الواجهة أسئلة حائرة ساخطة: لماذا لا تجتمع الأمة في سائر شؤونها، وكل قضاياها الهامة والمصيرية، في صعيد واحد كما اجتمعت ها هنا على صعيد عرفة، فالرب المعبود هو هو سبحانه هنا وهناك وفي سائر الأماكن، والبيت المقصود هو هو في مكة وخارجها وفي سائر بقاع الأرض، والرسول الهادي هو سيد الخلق محمد صلى الله عليه وسلم، فهي بحق وحقيقة خواطر حالمة تجيش في النفس، وتحلق في سماء الأمنيات، وهي ترقب المشهد الخاشع المخبت، لكن سرعان ما تتبخر تلك الأحلام حينما يرتد البصر ليعاين واقع الأمة في تفرقها وتشرذمها واختلافاتها، وصراعات أبنائها المذهبية والطائفية والسياسية، والتي يريدون بها تجزئة المجزأ، وتقسيم المقسم، وإرهاق الأمة بمزيد من أسباب الضعف والوهن، وإغراقها في بحور الغثائية المبددة لكل معاني القوة والعزة والمنعة. كما أن من خصوصية يوم عرفة أيها الأخوة أن حث الشرع على صيامه وهذا لغير الحاج قال النبي صلى الله عليه وسلم عندما سُئل عن صوم يوم عرفة؟ فقال: “ يكفر السنة الماضية والباقية “ فما أعظمه من فضل!! أن يكون صيام يوم واحد يكفر سنتين. إن هذا الحث والترغيب في صيامه يدعو إلى استنهاض الهمم في معرفة هذا الفضل والتسابق فيه. كما أن هذا اليوم الأغر هو يوم الدعاء، فالله سبحانه رحمةً منه بعباده ؛ طلب منهم الدعاء: “ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ “، وقال سبحانه وتعالى : “ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ “ وهذا هو طريق إجابة الدعاء: “ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي”، أي لأمر الله - عز وجل - مسارعةً إلى الواجبات، ومسابقةً إلى الخيرات، واجتناباً للمعاصي، وبُعداً عن السيئات..” وَلْيُؤْمِنُواْ بِي “، إيمانا خالصاً لا شك فيه ولا شبهة ولا رياء فمن تحقق بذلك أجاب الله دعاءه، وأعطاه من فضله، فالله سبحانه يحب سؤال السائلين، وتضرع المتضرعين، كما صح في حديث النبي صلى الله عليه وسلم: “إن الله حييٌ كريم يستحي إذا رفع عبده كفيه إليه أن يردهما صفرا” فالدعاء بإذن الله مجابٌ إما في العاجلة وإما في الآجلة، وإما أن يرد به من القضاء والبلاء مالا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى. ولما للدعاء من فضل في يوم عرفة فإن النبي صلى الله عليه وسلم يقول:” خير الدعاء دعاء يوم عرفة وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي : لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك وله الحمد وهو على كل شيءِ قدير” ..فحري بنا أيها الأخوة الأعزاء أن نغتنم يوم عرفة، ونتقرب إلى الله فيه بصالح العمل، ونتضرع ونبتهل بين يدي المولى عز وجل بالدعاء، بأن يحفظ وطننا من كيد الكائدين والمتآمرين الذين يريدون بنا الفرقة والتشرذم وبأن يرزقنا الأمن والطمأنينة والاستقرار وأن يحفظ لنا قائدنا الرمز فخامة الرئيس علي عبدالله صالح رئيس الجمهورية حفظه الله ويحفظ لنا وحدتنا الكبرى..نسأل الله - عز وجل - أن لا يحرمنا الأجر والثواب في هذا اليوم، وأن لا يحرمنا من فيض عطائه لأهل الموقف الذين يجتمعون بقلوبٍ خاشعة، وأعينٍ دامعة، وأنفسٍ ضارعة لله سبحانه وتعالى .. وعيداً مباركاً وكل عام والجميع بخير وعافية. [email protected]