أقام الكاتب الأميركي الراحل جيمس بولدوين، سنوات طويلة في جنوبفرنسا. وفي أواخر السبعينات قرر العودة الى نيويورك. وسأله صديق عربي ما سبب القرار المفاجئ، فأجاب أبرز كتّاب أميركا «الزنوج»: «لديَّ شعور بأن المشكلة العنصرية قد دخلت في أميركا مرحلة الحل والانتهاء، بينما هي في أوروبا تدخل الآن مرحلة التعقيد والظهور». كانت كل كتابات بالدوين حول هذه المسألة، وحول الحياة في هارلم، وعن عائلته وأشقائه الغارقين في الفقر، بينما خرج هو إلى الشهرة والثروة والقدرة على أن يقطن مع الأثرياء في «سان بول دو فانس»، ولكن بعد معاناة طويلة مع الفقر في فرنسا نفسها، التي هرب إليها بعيداً عن العذاب العنصري، وليكتب فيها «لا أحد يعرف اسمي»، اضافة الى بعض أجمل المطالعات في حياة الافرو أميركيين. تذكر الصديق العربي كلام جيمس ارثر بالدوين، وهو يغادر عائداً إلى أميركا العام 1977، فيما تطلع إلى ضواحي باريس ورآها تحترق في نيران غامضة، ملأت فجأة الأحياء الفقيرة وحارات المهاجرين السود والعرب وسواهم. وما لبثت الحرائق أن امتدت من باريس إلى مدن فرنسا الأخرى. وليل السبت الأحد وحده، أحرقت 1300 سيارة في هذه الموجة المختلطة والمبهمة من العنف. فقد بدأت الشرطة في شجار مع مهربي المخدرات في ضاحية «سان دنيس» وانتهى الأمر بمواجهة عارمة مع الدولة الفرنسية، تذكر بثورة الطلاب في مايو (أيار) 1968. غير أن الحركة الطلابية كانت لها أهداف وخطط، وكان لها قادة ومرجعيات. وقيل يومها أن قوى يسارية مؤيدة لإسرائيل شاركت فيها، لإرغام ديغول على الاعتزال، انتقاماً من حظر الأسلحة الشهير الذي فرضه على تل أبيب. أما اليوم فالفوضى العارمة لا مرجعيات فيها. والعدوى المتنقلة من مدينة الى مدينة تهدد استقرار فرنسا من دون أن نعرف لماذا، أو هل هناك محرك خارجي، وما هي أهدافه؟ منذ أسابيع والحكومة الفرنسية تقول إنها تتوقع هجوماً ارهابياً من «القاعدة»، فهل اختارت «القاعدة» أن يكون هجومها هذه المرة على هذه الطريقة، ومن خلال شكاوى المهاجرين وعدوى الفقر؟ ولكن هل هؤلاء حقاً «مهاجرون»؟ أليس أكثرهم من مواطني فرنسا، يذهبون مثل جميع المواطنين الى جميع المستشفيات والمدارس والجامعات والصيدليات، ومراكز التقاعد والبطالة؟ وهل في فرنسا حالة عنصرية «رسمية»، كما كان في أميركا قبل منح «الحقوق المدنية» للجميع؟ أم أن العنف في نهاية المطاف، عدوى طوعية في أوساط الفقراء، ينتقل كالنار، بعكس الهدوء والتهدئة؟ الشرق الاوسط