منذ احتلال فلسطين عام 1948م انتقلت الأرض الفلسطينية إلى القلوب الإنسانية هماً مؤرقاً, لأن تلك الكارثة حاقت بالمواطن الفلسطيني كانت فريدة في تواريخ العدوان وفي كوارث الشعوب, فقد وقعت عدة شعوب تحت وطأة الاستعمار, وامكنها ان تتحرر لأن الاستعمار الذي عانته تلك الشعوب كان مختلفاً عن الاستعمار الاستيطاني الذي احتل الموطن الفلسطيني كمعسكر بديل للاستعمار الراحل وكجسر جديد للاستعمار الجديد. بهذا كانت قضية فلسطين فريدة في تاريخ الشعوب وفريدة في الهم الانساني فاهتم بها كل انسان اينما كان مكانه لان ذلك الطراز من الاحتلال اقتلع شعباً بكامله واحتل ارضه بديلاً عنه, وهذه الحادثة غير مسبوقة بمثيل لان سوابقه من الاستعمارات كان يأتي إلى المواطن المستضعفة لكي يمتلك قيادتها ويستنزف خيراتها ويحصل على كل الامتيازات فيها.. عرض: أمين أبوحيدر وعلى بشاعة تلك الاحتلالات فإنها لم تقتلع الشعوب وترميها إلى مهبات العواصف حتى ولو استكثرت تلك الاحتلالات من اقتطاع الأرض الزراعية ومن اجتلاب الجوالي الأجنبية التي تخدمها فان الشعوب ظلت مجذرة في أرضها وان كابدت القهر فإنها ما دامت باقية فان انتصارها ممكن أما الشعب الفلسطيني فانه عانى التشريد ولاشك أن اقتلاع شعب فلسطين أثار عدة تساؤلات عن أسباب اقتلاعه الذي هو غير الهزيمة وإنما هو اجتثاث من صميم ترابه الوطن.. رد بعض الدارسين اقتلاع الشعب الفلسطيني إلى مهارة الصهاينة وتواطؤهم مع الاستعمار القديم الجديد ورد البعض الأسباب إلى شدة اختلاف الزعامات الفلسطينية فيما بينها والى ضعف بعض المواطنين إزاء إغراء الوكالة الصهيونية التي حاولت أن تشكل غالبية سكانية عن طريق شراء المزارع والمساكن ثم عن طريق الإرهاب إلى جانب وسيلة دعوى التآخي وأدى كل هذا إلى تشريد الشعب الفلسطيني وكل هذا التساؤل عن الأسباب موضوع نقاش. فما أكثر ما تختلف الزعامات ولكن على الطريق الأصوب وعلى الوسائل الأجدى ولا يؤدي أي اختلاف زعامي إلى إتاحة الفرصة للأجنبي، حتى أن اشد المختلفين اصطراعاً يتوحدون ولو مؤقتاً أمام العدو الأجنبي، وبهذا ينهزم مهما تكاثر حلفاؤه ومؤازروه، أما إغراء الوكالة الصهيونية للفلسطينيين، فإن ضعفاء النفوس موفورون في كل شعب، كما أن الإغراء متعدد الفنون، وربما كانت قابلية الإغراء تنتمي إلى الطيبة أكثر من انتمائها إلى الضعف أو الخيانة، بدليل أن الاستعمار يعتمد على طيبة الشعوب في بادي الأمر، ويظل معتمداً عليها، حتى تكتشف الشعوب نفسها وأمر محتلها، هذا بالنسبة للشعب الفلسطيني في بدء احتلالها أما بالنسبة للشعب العربي فإنه كان إبان الاحتلال لفلسطين يرزح تحت أنظمة عميلة فلا يقدر على تلبية إخوته في فلسطين، رغم أن الذين خانوه أو تواطوا مع الخونة سقطوا من عروشهم بعد احتلال فلسطين بأمد طويل أو قصير، لان نكبة فلسطين كانت فتيل ثورات الشعوب من 52إلى 1962م وكان السبب في إمكانية تلك الثورات ثم تفجرها وجود الشعوب المقهورة على أرضها، وتحت توهج ثورات الشعوب التي كانت محتلة ترددت التساؤلات عن الوجود الفلسطيني ولماذا لم يقاوم المحتل ولماذا لم يتشبث بجذور أرضه وكيف نشأت فيه قابلية الاقتلاع وهل كان يمكن أن يؤدي الاختلاف بين الزعامات الفلسطينية إلى تمكن الاحتلال الصهيوني من أن يحل محل الشعب الأصيل. صحيح أن هناك من قدر موقف المعتدي وموقف المعتدى عليه ونظر إلى موقف الشعب الفلسطيني الأعزل وإلى الصهيونية المسلحة بكل أسلحة الاستعمار، وصحيح من أن هناك من تغاضى عن هاذين الموقفين وقاسى الشعب الفلسطيني الأعزل بسائر الشعوب العزل التي قاومت الاحتلال حتى ظفرت بالسلاح الذين يكافئ سلاح المحتل لان احتلال أكثر الشعوب كان بسبب ضعفها وقوة محتليها غير أن هناك من فرق بين المراحل الاستسلامية والنضالية فرأي فترة احتلال فلسطين كانت خلوا من التحرك الشعبي على حين كان الاستعمار قادراً على التحرك وملئ الفراغ وكل هذا التساؤل والتفاسير يزيد من فرادة القضية الفلسطينية ومن فرادة التوحش الاستعماري الذي تكالب على فلسطين لكي يزرع الصهاينة في غير موطنهم كمنصة لوثوب الاستعمار الجديد لقد توالت الدارسات العلمية في قضية فلسطين وفي اساليب الاستعمار الذين زرع الكيان الصهيوني وغداءه حتى أصبح عملاقاً استعمارياً في قلب الشرق الأوسط ولان الخمسينات كانت زمان الثورات وموسم فضح الاستعمار حاول الاستعمار الجديد إطفاء شعلة الثورات عن طريق الهجمات الصهيونية المنقادة للاستعمار الجديد والمدفوعة وكانت الهجمات الصهيونية تؤدي إلى عكس الغاية منها بفضل الاتقاد الثوري الذي أعلت لهيبه ثورات الجماهير من أول الخمسينات إلى منتصف الستينات وفي ذلك الحين عم التأجج الثوري وتحت وهجه انتقل الشعب الفلسطيني من لاجئ إلى مناضل وتحولت قضيته من وراء الكواليس إلى فوهة البندقية وبهذا كفر الجيل من الفلسطينيين ذنوب أبائهم المنكوبين لتقبلهم التشريد أو لاشتغالهم ببعضهم عن العدو الغاصب أو لعدم توحدهم في وجه اكتساح الأجنبي. لقد أراد الجيل الثائر محو الوصمة الفلسطينية وتحقيق الرجوع الى فلسطين أو تحقيق استرجاع الموطن المسلوب وفي طفولة هذه المحاولة حدثت هجمة حزيران 67م وعلى رغم ما حدثت من نكسة في الشعوب الثائرة فإنها خصبت بداية النضال الفلسطيني كما وسعت ميادينه فقاتل الفلسطينيون إلى جانب جيش مصر في قناة السويس وإلى جانب جيش الأردن في الضفة الغربية وإلى جانب الجيش السوري في الجولان لان الفلسطيني رأي واحدية مصير الثورات وقيمة انتصاراها كجزء من انتصاره على الصهاينة. بهذا شكلت نكسة حزيران تجدد ثورة الشعب الفلسطيني لان تلك النكسة فتحت العيون على ما في الأنظمة الثورية من خلل يفرش الطريق تحت حوافير الثورة المضادة التي ركز الاستعمار على تغذيتها من لحظات شروق الثورات الاتجاهية. إذ تسببت نكسة حزيران في ارهاف ملاحظة الشعب على التركيبات السياسية الفوقية فإنها أوجدت مبررات للأنظمة الرجعية لتسفيه الثورات واستضعاف سياستها لأنها استجلبت العدوان على رأي تلك الأنظمة وهذه الأطروحة الرجعية لا تثبت للنقاش فلم تستجلب الثورات العدوان بدليل أن احتلال فلسطين سبق الثورات وبدليل أن الاستعمار زامن وجود الحكومات الرجعية وجاء متكئاً عليها وبدليل ثالث بروتوكول حكماء صهيون حدد الأرض التي سيحتلها الصهاينة بغض النظر عن الأنظمة التي كانت قائمة فيها والتي سوف تقوم فإذا كان هناك أي مغمز على الثورات فإنه يؤوب إلى قمع الأنظمة العميلة التي جاء الاستعمار على أكتافها لتقهر الشعوب ، قد تكون الثورات مسؤولة من وجة واحد هو انخداعها بالعملاء الذين تمظهروا الثورة أو لعجزها عن اكتشاف الأوكار الغائرة التي ربت فيها المؤامرات على الثورات الشعبية التي صممت على تحرير فلسطين من الصهاينة وعلى إقامة النظام الفلسطيني على أرضه وبهذا الوجه الذي انقص الثورة أو وفر سلبياتها كانت نكسة حزيران سبب تقوية الثورة المضادة التي بلغت قمة نجاحها في فجر السبعينات لكي تخنق كل الثورات بما فيها الثورات الناشئة في اليمن والثورة التحرير بين أفواج المناضلين الفلسطينيين حتى تبددت السبعينات من القرن العشرين كنصف الاول منه من حيث الخضوع للاستعمار وتغطيتها للخضوع بالمفاوضات وإعلان الجلاء الوهمي. بهذا رجعت الفترة إلى حين احتلال فلسطين ولو بشكل آخر لكي يستجد خلاف فلسطيني شبيه بالاختلاف الذي أفسح الطريق للاحتلال وهذا بسبب المناخ الممتد من مناخ ظروف الاحتلال فلم يعد للثورات القومية الا اخفت النبضات على حين علت لغة الثورة المضادة ولغة الرجعية على همس الشارع الشعبي والشارع الثقافي ورددت الكتابات المتآمرة أفراح انتصارها فردد البعض من أعلى المنابر مزايا العهود التي سبقت الثورة كثورة اباضة مثلاً الذين مزق حلقومه تبجحاً بديمقراطية العهد الملكي وحرية الاقلية الباشوية فيه وكأن هذا الكاتب ينعق في موطن غير موطن ثورة 23يونيو بالإضافة إلى هذا وأمثاله رددت الكتابات التآمرية تأبين أيام العز العربي كما كتب احد المرتزقة قائلاً: ما بال هؤلاء يرددون لغة أيام احمد سعيد وصيحات التشنج الذي لا يجدي فلم نسمع لغة العمالة والرجعية والمؤامرة إلا من قلم فلان وفلان وفلان. حسناً نفترض أن لغة الثورات خفقت وان العمالة والمؤامرة أصبحت أعلى صوتاً واملك للأجهزة المدوية. فهل هذا يجمل العمالة؟ وهل هذا يزيل شناعة المؤامرة؟ هل هذا يجعل الاستعمار حبيباً بعد أن جربته ملايين الناس وأرخت إجرامه دماء الضحايا؟ إذ خفتت الصيحات ضد الاستعمار والعمالات فلأنها قد انكشفت لإنسان الشارع والثكنة والجامعة والمعمل. فهل قلة إدانة المؤامرات والاستعمار يوفر لها وله الأمن؟ لقد كانت الشعوب في النصف الأول من القرن العشرين خارج المسرح الاعتراكي لا تسمع التنديد بالاستعمار والرجعة إلا في المظاهرات النادرة التي يحركها الطلاب ثم تسكن الحركة بسجن من يسمون بالمشاغبين ومع هذا تفجرت ثورات الشعوب قبل ضجيج احمد سعيد, بل لم يكن صوت احمد سعيد إلا بعض أنفاس الشوارع الهادرة. فهل تأبين أيام العز قادر على منع أيام أخرى تفوق الأيام الأخرى أو تسترفد من تجاربها؟ إن إسكات الشعوب ليس دليل قوة الأنظمة ولا برهان ديمومتها بل هو البشير على تفجرها وشاهد الخوف منها ولم تكن هذه الهجمات الصهيونية الامبريالية إلا شهادة الإثبات على اقتحام الشعوب وعلى إمكانية الثورات لقد ظل الاستعمار الجديد من مطلع الستينات إلى آخر السبعينات يتسلل في الحقائب والشيكات وينفذ من خلال السلعة ومن ثنايا الأزمات المصطنعة ولما اخفق هذا التسلل المقنع هجم الاستعمار الجديد بوجه السافر من وراء المدفع والقاذفة كالاستعمار القديم تماماً وكامتداد غير متطور لضرب الإسكندرية بالمدافع الانجليزية وقصف بيروت ودمشق بالقنابل الفرنسية وكان سفور الاستعمار الجديد احد استنفار الشعوب للذود عن حياضها. في هذه الظروف الحربية المقنعة بالسلم عادت القضية الفلسطينية إلى ميراثها الثقافي على الزعامات. فهل أعادت نفس الاسطوانة تغنيها؟ إن معطيات الأحداث تشهد أن مستقبل النضال الفلسطيني سيخرج من هذه الزوبعة أقوى وأبهى لان الفلسطينيين لا يصطرعون على التشبه المحدود بالسلطة أو الاقتحام الأناني إلى السلطة ولذلك لغياب الأرض التي تقف عليها السلطة لان مكونا السلطة شعب وارض وناظم مشترك بين الشعب والأرض وبين السلطة والشعب القائم على الأرض فعلى التشابه الاختلاف الفلسطيني بسائر الاختلافات بين الشعوب وأنظمتها فأنه يتسم بالفرادة التي تتسم بها القضية الفلسطينية جملة فليس اختلاف الفلسطيني كاختلاف الشعب المصري وأنور السادات، ولا كاشتباك التجمع الإسلامي والنظام التونسي ولكن هناك اصطراع فلسطيني على أي حال. يتبع