ﻷن صالح الذي حكم اليمن 33 عاما , وخدمته الظروف والمتغيرات وتقلبات الأوضاع وغفلات التاريخ الذي صعد أثناءها إلى كرسي الرئاسة بصنعاء وهو ذاته الشخص الذي قيل أنه عاش طفولة بائسة عانى خلال فترتها من اليتم وحرمان الأب الذي توفى وهو في سن صغيرة ولم يأت من خلفية ارستقراطية وزعامة قبلية ووجاهة اجتماعية يستند عليها ويعزى إليها , وعانى في المرحلة الأولى من عمره حياة الفقر والحرمان والفاقة وشظف العيش , فقد كان من الطبيعي أن تجده وقد صار فجأة الرجل الأول في البلاد والآمر الناهي شديد الحرص على تعويض سنوات الحرمان والبؤس السابقة بل ويشطبها من سجل حياته , ويكون له ثروة طائلة في بضع سنين ويمتلك كل ما حرم منه من قبل ولا يكتفي بما أكتسبه متذكرا كل حين ماضيه البائس وما كان عليه فيه من شقاء وتعس بسبب الفقر. وكما سبق وذكرنا من قبل فالرجل كان يتمتع بقدر كبير من الذكاء والدهاء الفطري إلى جانب قدراته التي أكتسبها في مدرسة الحياة والتي لم تقتصر على المكر والخداع والمراوغة وامتصاص الضربات والنأي بنفسه عن مجمل الأخطار والتماهي والتعامل مع الظروف والمستجدات الطارئة بما يعزز سلطته وبقائه على كرسي الحكم. على أن علي عبدالله صالح الذي وصف نفسه كحاكم بالراقص على رؤوس الثعابين ظل يمارس هوايته كمحنش حتى اللحظات الأخيرة من حياته , وانطبق عليه المثل الشعبي اليمني المعروف الذي يقول هنا :” آخرة المحنش للحنش” ! , أي أن صالح بعد 33 عاما من رقصه على رؤوس الثعابين كما وصف نفسه قضى ملدوغا من أحد الثعابين التي راقصها وطويت صفحته كمحنش بارع ماهر كان يجيد ذلك الفن من الرقص ويتقنه تماما كما هو نفسه بذلك , ولم يدر بخلده وهو يمارس تلك الهواية واللعبة الخطرة المفضلة لديه أنه سيأتي يوما عليه ويذهب ضحيتها. والذين عرفوا صالح وكانوا قريبون منه يؤكدون أنه كان يجيد فن الممكن والمتاح الذي مكنه من التعامل مع واقعه المعاش كحاكم لإحدى دول العالم الثالث بمهارة واحترافية عالية ومارس اللعب على مسرح الأحداث والتاريخ كمحترف رغم تجاوزاته الكثيرة أثناء ممارسة تلك اللعبة للكثير من الأشياء والاعتبارات والمحددات والشروط . ولم يفتني أنا شخصيا كعامل اشتغل بحقل الإعلام والصحافة لسنوات من أن ألحظ مدى ولع صالح بالظهور الإعلامي وتصدر قائمة الأخبار التي يتناقلها كل يوم , وكان كثيرا ما يحرص على المشاركة والحضور وتدشين عدد من الفعاليات المختلفة ضمن مناشط الدولة اليومية ليلقي خطابا هنا وخطابا هناك , ويتعمد استخدام الحذلقة الكلامية ويوحي للجماهير بمدى علمه وذكائه ونبوغه ومعرفته بكل شيء يدور حوله ويتطرق إلى تفاصيل ذلك كمن يقول : أنا الأفهم , أنا الأذكى , أنا الأجدر والأولى بقيادتكم إلى ما لا نهاية وكانت تخونه الكثير من العبارات ومعاني ومقاصد الكلام والتعبير ويقع في زلات اللسان . وقد كان صالح يفعل ما يفعل ضمن ذلك السياق وطقوسه اليومية كرئيس للجمهورية يتدخل في كل كبيرة وصغيرة مدفوعا بما يمليه عليه عقله الباطن الذي يشعره بشيء لا يخفى ولا ينكر من الغرور وجنون العظمة والخيلاء , بيد أن عقد النقص التي رافقته في حياته كان لها حضور ودافع في بعض ما يمكن اعتباره “ حماقاته ومواقفه الغير موفقة من بعض القضايا والأمور . وقد أوصله ذلك الغرور وجنون العظمة الذي أكتسبه كحاكم مستبد يدير بلدا مضطربا كاليمن إلى النهاية المتوقعة له . وصالح الذي أحرم عقب ثورة الشباب عام 2011 م من امتيازات لقب فخامة رئيس الجمهورية وابن اليمن البار و” القائد الحكيم الضرورة “ كما كان يصفه المتزلفون والمسبحون بحمده كان مهووسا بالسلطة التي ادمنها وأدمنته إلى الحد الذي اصبحت تشكل بالنسبة له داء عضال ألم به ولا شفاء منه , لم يكن يقبل والحال كذلك بأن يحرم منها وتنزع منه ولهذا ظل يكابر ويساوم ويراوغ ويرفض تماما الإعتراف بواقع جديد فرض عليه لم يعد فيه رئيسا للجمهورية , وكان لا يخفي على من يلتقي بهم مدى شعوره بالضيق والتوجع من وصفه بالرئيس السابق أو “ الرئيس اليمني المخلوع” وقد استحسن كثيرا لقب “ الزعيم “ الذي خلعه عليه أتباعه وأنصاره بعد مغادرة دار الرئاسة ووجد فيه بعض العزاء له في مصابه الجلل بفقد السلطة وأبهتها وعظمتها ومكاسبها ومغانمها وامتيازاتها وكان يحب ان يسمع من يقول : فعل الزعيم , قال الزعيم , سبر الزعيم ويطرب لذلك كثيرا , وهذا هو ديدن وطبيعة كل من يصلون إلى الحكم في بلدانهم من دول العالم الثالث على حين غفلة من التاريخ !.