عدد من وسائل الإعلام العربية دخلت مرحلة الصهينة وتجاوزت مسألة التطبيع مع الكيان الصهيوني، ودخلت بوابة المشروع الصهيوني. وسائل إعلام عربية تستضيف أفخاي أدرعي الناطق بإسم جيش الإحتلال الإسرائيلي، ومحللين سياسيين إسرائيليين، وباحثين في مراكز أبحاث، معظم هؤلاء يعمل مع المخابرات الإسرائيلية. وسائل إعلام تنشر خريطة فلسطين وعليها إسم "إسرائيل" وأخرى تنقل تصريحات سياسيين تدافع عن "إسرائيل" وحقها في الوجود، وتبرر العدوان الإسرائيلي على الدول العربية. وتروج تصريحات لحاكم عربي يقول أن على الفلسطينيين القبول بالشروط الإسرائيلية هذه الأمثلة نموذج مبسط من حجم الانحدار السياسي والإعلامي في تصهين بعض وسائل الإعلام العربية. لم نعد أمام وجهة نظر، نحن أمام مشروع هجمة تطبيعية باتجاه الكيان الصهيوني، وهي سقوط أخلاقي وسياسي وإعلامي لجزء كبير من المجتمع. أن ينحاز الإعلام العربي بمختلف تلاوينه في تغطيته للعدوان على غزة إلى جانب إسرائيل، فذلك ربما لن يفاجئ أي عربيّ أو مسلم يتابع الأحداث في فلسطينالمحتلة ,لكن أن تحاول بعض وسائل الإعلام العربية في تغطيته تقليدَ الإعلام الغربي في مصطلحاته ومساواته بين الجلّاد والضحية واستعمال مفردات غربية على الجمهور العربي من قبيل "قتلى فلسطينيون في غزة" بدل "شهداء"، أو "الجيش الإسرائيلي" عوض "جيش الاحتلال"، أو "وقف إطلاق النار بين فلسطين وإسرائيل"، فذلك هو الجديد الذي يستحقّ التوقّف عنده. إن استعمال تلك الأوصاف من قبل المحررين في غرف الأخبار ببعض وسائل الإعلام العربية ليس عرضياً أو على سبيل البحث عن الحياد، بل يعبّر عن سياسة ومواقف بلدان عربية انخرطت في مسلسل التطبيع. وتسعى تلك الدول من خلال أذرعها الإعلامية لجعل إسرائيل مقبولة بين الشعوب العربية ونزع القدسية الدينية والقومية عن القضية الفلسطينية وتقديمها للمشاهد كأي نزاع آخر في العالم. أين يتم استبدال "القتلى"، ب"الشهداء"، وهي المفردة ذات الرمزية الكبيرة لدى المسلمين؟ وتمثل المصطلحات المُحرَّفة استراتيجية للبلدان التي تموّل تلك المحطات، وبالتالي فإن توظيفها ليس اعتباطياً، فهي تهدف إلى التشكيك في الإجماع الموجود أصلاً لدى المسلمين والعرب حول قدسية وقداسة القضية الفلسطينية. فبعد فترة من تَعوُّد جمهور المتلقين سماع تلك التعابير، يبدأ اللا وعي في التساؤل وتفكيك المفاهيم والقضايا التي كانت مسألة مبدأ. ويرتبط الإعلام ارتباطاً وثيقاً باللغة، فكل شيء يبدأ من اللغة: تبرير الحروب، صناعة الأعداء والأصدقاء، تحضير الشعوب لقرارات حاسمة، إلخ. ومن خلال توظيف اللغة في الإعلام نكتشف دون عناء موقف الأطراف من القضايا المختلفة. ومن الأمثلة الأكثر شيوعاً عبر التاريخ أن يتم توظيف مفاهيم سامية مثل الحرية والديمقراطية والسلام والعدالة والدفاع عن النفس، لتقبُّل الجمهور ما هو قادم. وتكون مهمّة الإعلام هنا هي تضليل المُتلقّين بعبارات مقبولة، وفي الحالة الفلسطينية لجأت وسائل إعلام عربية إلى تصوير العدوان على غزة وتدمير الأبراج السكنية فوق رؤوس ساكنيها على أنه "حرب في غرة" أو "تصعيد إسرائيلي" أو "ردّ على الصواريخ الفلسطينية". وفي ذلك مقارنة مجحفة هدفها مساواة الجلاد بالضحية. إن توظيف الإعلام لمثل تلك العبارات لأغراض سياسية هو جزء من تقاليد شنّ وتبرير الحروب. فالادّعاء أن إعلان الحرب جاء لمحاربة الإرهاب أو من أجل القيم العالمية أو دفاعاً عن النفس، يمنح الطرف المعتدي الشرعية والغطاء لاستخدام القوة العسكرية بشكل عشوائي، ولن نكشف سرّاً إذا قلنا إن وسائل الإعلام التي سارت على ذلك النهج هي ملك لبلدان عربية طبّعت أو تسير في طريق التطبيع مع إسرائيل. ولا يعدو التطبيع كونه مجرد وعود وردية للعرب بقطف ثمار التعاون الاقتصادي والتجاري والتكنولوجي والزراعي والسياحي مع إسرائيل. لكن واقع حال البلدان التي طبّعت مع إسرائيل يُغنِي عن السؤال، فما الذي جنته دول التطبيع بعد 40 سنة من انطلاق قطاره.