علاوة على ذلك فإن المواطنين الجدد في اليمن يُفترض أنهم ملتزمون نظريًا بمشروع جماعي دائم يستمد طاقته من مقارنات ضمنية مع بلدان أخرى تُعرض في الكتب المدرسية الحديثة المصممة بعناية ومن خلال هذه المناهج يتم تشكيل رؤية موحدة للماضي الوطني بينما لا تحظى القبلية إلا بذكر عابر فعلى سبيل المثال يعرّف كتاب تاريخ اليمن في العصور الوسطى لطلبة الصف السادس القبيلة بأنها مجموعة كبيرة من الناس يعيشون في منطقة واحدة تربطهم علاقات النسب والجوار والمصالح المشتركة ويضيف أن الإسلام دعا الناس إلى تجاوز خلافاتهم إلا أن التعصب القبلي ظل قائمًا فقد اعتاد أفراد القبائل تنفيذ أوامر زعمائهم والقتال تحت رايتهم وإظهار النفور تجاه الغرباء ومع ذلك كانت للقبيلة أيضًا بعض السمات الإيجابية مثل التعاون والشجاعة والكرم وبالمثل كانت الانتفاضات القبلية تشكل أحيانًا جزءًا من مقاومة الغزو الأجنبي وحكم الطغاة في اليمن غير أن بعض زعماء القبائل والحكام سعوا إلى تغذية الروح القبلية والحفاظ عليها لخدمة مصالحهم الخاصة فالنزعة القبلية أو الولاء المفرط للقبيلة على حساب الدولة تُعد سلوكًا مذمومًا وقد أدانه الإسلام وناهضه المصلحون في المجتمع اليمني، فاليمن الموحد الحديث يتطلب تضافر جهود جميع المواطنين سواء في المدن أو القرى أو الجبال. إن العرض المتوازن لهذه النصوص في المناهج يُضفي جاذبية تعليمية عامة إلا أن الرسالة الجوهرية تظل واضحة: الزمن الذي تقدمه هذه الكتب هو زمن متجانس ومتماسك يختلف جذريًا عن التصورات الزمنية المتعددة التي كانت سائدة في الفترات السابقة فالمبدأ الضمني الذي تقوم عليه المناهج الحديثة هو الإيمان بوجود جماعة وطنية موحدة تتصرف بشكل منسق وكأنها كيان طبيعي ومتجذر سواء في اليمن أو في بلدان مغاربية أخرى هذا العالم المعنوي المُعاد تشكيله من خلال مفاهيم مدرسية للتاريخ قد يبدو صادمًا مقارنة بالمفاهيم البديهية للماضي وكما لاحظ الباحث في الشأن اليمني أيكلمان فإن تعددية الماضي قد تكون في طريقها إلى الزوال فاستدعاء الشعب في هذا السياق يضفي عليه طابعًا متجانسًا يُظهر أفراده كأنهم متساوون في الأصل والهوية يتشاركون تاريخًا واحدًا ومستقبلًا مشتركًا ويعيشون حاضرًا موحدًا سيُرسّخ مفهوم التقدم أو التخلف كوحدة مركزية في مواجهة وحدات وطنية أخرى مثل الهوية وقد تُعدّ الهويات القبلية طالما لا تمثل تهديدًا غير ذات صلة وهكذا يُنظر إلى الشعب ككتلة اجتماعية واحدة وترتفع الرهانات السياسية تبعًا لذلك فعندما يُفهم العالم ككلٍّ ويُنظر إليه على أنه يعاني من خلل جوهري فإن ما كان يُعتبر هامشيًا أو فرديًا في الإيقاع الطبيعي للمجتمع يصبح كما يشير بوكوك في كتابه عن اليمن جزءًا من معضلات اجتماعية أكثر إثارة. إن الأشكال التقليدية التي لم تعد تمنح التجربة الإنسانية معناها تهمّش ما هو فردي وعلى رأسه الحياة السلمية، تلك التي تُدافع عنها الخطابات العامة ولكن يظل شكلها الفعلي غامضًا أما الأصلاحيون الذين كان تأثيرهم على القبائل في الآونة الأخيرة محدودًا فهم ليسوا ظاهرة جديدة فمنذ عهد الإمام الهادي ظهرت دعوات متقطعة خصوصًا في أوقات الأزمات إلى تطبيق قواعد أخلاقية منزلية بشكل علني ويُعدّ حظر الموسيقى وفرض الحجاب على النساء من السمات البارزة لهذه الدعوات وهي دعوات لا تزال قائمة حتى اليوم وقد تعود لتتكرّر في سياق عصري مختلف تمامًا ومع ذلك لا يزال المشروع القومي يحتفظ بقوته مدعومًا بخطاب التقدم والتنمية ويبدو أن مستقبل سكان الريف إلى حدّ بعيد بات في أيدي الشباب المتعلمين ومن هذا المنظور المستمد من الحسّ المشترك في دول أخرى ومن الفكر المحلي رغم هشاشته المحتملة على المدى البعيد- تبدو القبائل وكأنها بقايا من مرحلة تاريخية سابقة لقد بدا منذ الحرب الأهلية حين كانت القبائل تتقاتل لحسم القضايا أن المستقبل ينتمي إلى شيء آخر غير القبلية ولا يزال هذا الانطباع قائمًا حتى اليوم إلا أن ما نراه ليس مجرد وصف بسيط للعالم المعاصر فالقبائل لم تكن يومًا أقوى مما كانت عليه عام 1980م على سبيل المثال بل هو حكم قيمي شامل يشترك فيه عدد كبير من أبناء القبائل أنفسهم ولهذا من الجدير بالذكر أن هذه المادة تحديدًا باتت تحظى باهتمام مفاجئ من قبل مجموعة صغيرة من الكتّاب اليمنيين الذين كانوا عند كتابة هذا التقرير مهتمين بدور العادات والبنية القبلية ومكانة الشيوخ والقانون العرفي، إن قلب المشروع البحثي الحالي رأسًا على عقب والكتابة بدلًا من ذلك عن الإثنوغرافيا الخاصة بهم مع القبائل كجزء محدد من تصوراتهم قد تفتح أفقًا لفهم أعمق وأكثر دقة للعلاقات الاجتماعية والسياسية في اليمن والعالم، إن السعي لفهم ما هو قبلي بشكل حاسم بل والقيام ببحث ميداني بين القبائل يعني في جوهره المشاركة في إعادة تقديم وتفسير لما يجري فعليًا فقد كانت القبائل تُشكّل في الماضي نصف عالم يستند إلى التقاليد الإمامية ولا تزال إلى اليوم تحتفظ بهذا الدور جزئيًا لذا فإن ما يُعدّ قبليًا من أفعال رجال القبائل ليس كل ما يفعلونه بل فقط جانب معين يلفت الانتباه ويثير الجدل مثل قضايا الثأر واللجوء فعلى سبيل المثال مسألة الثأر تتعلق بحكم القتل فإذا قام أحدهم بالقتل دفاعًا عن الشرف فإن من حقه أو من حق قبيلته طلب التدخل ويُمنح له أو لمن يحميه من أفراد القبيلة ما يُعرف بأول درك أي حق اللجوء والحماية ويمكن للقاتل في بعض الحالات قبول الحماية حتى من خصومه ويُتاح لأفراد القبيلة التدخل وتوفير الحماية لمدة خمسة عشر يومًا وقد وثّقها المؤرخون والباحثون في الشأن اليمني غير أن الأحكام القبلية التقليدية تبدو للحداثيين أنها متقادمة ومتصلة ومرتبطة ارتباطًا وثيقًا ب العصبية القبلية التي تُدان في المناهج التعليمية الرسمية كما أن هناك نوعًا من التحفظ لدى رجال القبائل أنفسهم في الإقرار باستمرار هذه الممارسات حيث يرى الكثير منهم أنها ستزول يومًا ما مع تراجع ما يُعتبر جهلًا بفعل توسع التعليم وانتشاره.