بينما تُراكم إسرائيل خطواتها العدوانية وتُراهن على تفوقها العسكري والدعم الغربي غير المشروط، كانت إيران تكتب ببطء وهدوء فصل النهاية لغطرسةٍ اعتادت أن تتحرك دون رادع. فبعيداً عن ردود الفعل الانفعالية، انتهجت طهران سياسة تُجيد ضبط النفس، وتُراكم القوة، وتُدير أوراقها في التوقيت الذي تختاره، لا الذي يُفرض عليها. النهج الإيراني اعتمد على الجمع بين الصبر الاستراتيجي والرد القوي . هذا المزيج الدقيق منح إيران قدرة نادرة على المناورة دون التفريط بثوابتها، وسمح لها بفرض إيقاعها على خصومها. فهي تُؤجل الرد حين يكون التأجيل مصلحة، وتُفاوض حين تتوفر شروط القوة، لكنها لا تتردد في قلب الطاولة حين تكتمل شروط الضربة الذكية. بعد انسحاب الولاياتالمتحدة من الاتفاق النووي عام 2018، لم تنجر إيران إلى الرد المباشر، بل اختارت أن تُعيد ترتيب موقعها الدبلوماسي، وتُثبت للعالم أنها لا تُراوغ بل تُعاقب بتدرج. رفعت نسبة التخصيب، فرضت قيوداً على التفتيش، وأبقت الباب مفتوحاً للتفاوض، لكنها في المقابل أوصلت رسالة واضحة: نحن لا نُفرّط، ولا نُهاجم أولاً، لكننا لن نظل صامتين للأبد. وفي لحظة فارقة عام 2024، قصفت( إسرائيل )القنصلية الإيرانية في دمشق، مُعتقدة أنها تُكرّس معادلة جديدة من الردع، لكن حساباتها لم تكن دقيقة. جاء الرد الإيراني مباشراً ومن داخل الأراضي الإيرانية، في سابقة لم يكن يتوقعها أحد، لكنها لم تكن ردة فعل عشوائية، بل جزء من منطق الردع المحسوب. لقد أرادت إيران أن تُعيد رسم قواعد الاشتباك على طريقتها، لا عبر الضجيج، بل عبر الفعل المحسوب الذي يُربك ولا يُستفز، يُهدد ولا يندفع. النجاح الإيراني في هذا السياق لم يكن محصوراً في الجانب العسكري أو النووي، بل في التماسك الداخلي بين ما هو ثابت وما هو قابل للمناورة. فثوابتها واضحة: لا تراجع عن البرنامج النووي، لا تخلٍ عن دعم محور المقاومة، ولا مساومة في رفض الهيمنة الغربية. أما الهوامش فهي مرنة: متى نرد، كيف نرد، وبأي مستوى من التصعيد، وكل ذلك يُدار بدقة عالية تضمن بقاء الخصم في موقع التخمين والقلق. لقد أصبحت تل أبيب، بكل ما تملكه من ترسانة عسكرية، في موقع الدفاع النفسي والسياسي. لم تعد قادرة على توقع متى وأين وكيف سترد إيران، وفقدت القدرة على جرّ الغرب إلى مواجهة مباشرة معها. بل إن سلوكها العدواني منح إيران الشرعية السياسية والأخلاقية للرد، وسمح لها بإظهار نفسها كقوة عاقلة لا تبحث عن الحرب، لكنها مستعدة لخوضها متى ما فُرضت عليها. ما يجري اليوم ليس تصعيداً لحرب شاملة، بل إعادة ضبط للمعادلات. إيران لا تريد الحرب، لكنها لا تقبل بمنطق الهيمنة. تُفاوض وهي تضع يدها على الزناد، وتصبر وهي تُمسك بخيوط اللعبة، وتضرب حين تتيقن أن الضربة ستُعيد ترتيب الطاولة لا أن تُطيح بها. بهذا المنهج، لا تُسقط فقط صواريخ الخصم، بل تُسقط أيضاً هيبته. هكذا، وبنار محسوبة وهدوء استراتيجي، تُعيد إيران رسم قواعد الردع، وتكتب سطوراً تُنذر بأن زمن الغطرسة الإسرائيلية يقترب من نهايته، ليس بصخب الشعارات، بل بعقلانية القوة.