المصائب لا تأتي فرادى، فبينما يغرق العالم في نفقٍ مظلم من الحروب المشتعلة في كل حدبٍ وصوب، ومع عودة المعسكرات السياسية وتباعد الأقطاب البارزين، يرزح مناخ الكوكب تحت وطأة خطرٍ داهم لا يُميّز بين الألوان والأعراق أو بين مختلف الكائنات الحيّة. ويسرق الصراع على الهيمنة أولويات قادة العالم، لا سيّما الرئيس القابع في البيت الأبيض، الذي يُبرّر عداءه لسياسات الطاقة النظيفة بأنّ التغيّر المناخي برمّته «خدعة». غير أنّ تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، يوم الأربعاء الماضي، توضّح أنّ الكباش حول السياسات المناخية يتراجع في أهميّته، فيما يتقدّم النقاش حول كيفيّة مواجهة التداعيات إلى المشهد. إذ أطلق غوتيريش صرخة جديدة للدول حول العالم، داعياً إلى الإسراع في تنفيذ أنظمة الإنذار المبكر لمواجهة الكوارث الطبيعية. كما حذّر من أنّ «كلّ عامٍ من الأعوام العشرة الأخيرة كان الأشدّ حرارة في التاريخ»، وأنّ المحيطات «تحطّم أرقاماً قياسية في السخونة، مدمّرةً النظم البيئية»، مضيفاً أنّ «لا دولة في مأمن من الحرائق والفيضانات والعواصف وموجات الحرّ». ودعا الأمين العام الأممي إلى تعبئة الموارد لإنشاء منظومة عالمية للرصد والإنذار، قائلاً إنّ هذه الأنظمة «تمنح المزارعين القدرة على حماية محاصيلهم، وتمكّن العائلات من الإخلاء الآمن، وتحمي مجتمعاتٍ كاملة من الدمار». كما أشار إلى أنّ مجرّد إشعارٍ مسبق قبل 24 ساعة من وقوع الكارثة يمكن أن يقلّص الأضرار بنسبة تصل إلى 30 في المئة. في هذا الإطار، أطلقت الأممالمتحدة منذ عام 2022 مبادرةً تهدف إلى تزويد جميع الدول بنظام إنذارٍ مبكر بحلول عام 2027، فيما تُظهر البيانات أنّ أكثر من 60 في المئة من الدول باتت تمتلك هذه الأنظمة. لكنّ غوتيريش أكّد أنّ الدول النامية ما تزال عاجزة عن الاستثمار فيها بسبب «تباطؤ النموّ وأعباء الديون الساحقة»، داعياً إلى خطة مالية عالمية تتيح توفير 1.3 تريليون دولار سنوياً للدول النامية بحلول عام 2035، لتمويل مشاريع التكيّف المناخي والحدّ من الانبعاثات. العالم يقترب من النقطة الحرجة تأتي تحذيرات غوتيريش في وقتٍ كشفت فيه «منظمة الأرصاد الجوية العالمية» (WMO) أنّ السنوات الخمس المقبلة مرشّحة لتكون الأشدّ حرارةً على الإطلاق. وتشير توقعات المنظمة إلى احتمالٍ بنسبة 80 في المئة أن يتجاوز أحد الأعوام بين 2025 و2029 حرارة عام 2024 الذي سُجّل كالأكثر سخونةً في التاريخ، وباحتمالٍ يبلغ 86 في المئة أن ترتفع درجات الحرارة مؤقّتاً بأكثر من 1.5 درجة مئوية فوق معدّل ما قبل الثورة الصناعية. سقف حدّده العلماء قبل عشر سنوات خلال قمّة باريس المناخية، قبل بدء تسلسلٍ من المتغيّرات المناخية الدائمة. ويحذّر تقرير المنظمة من أنّ كلّ جزءٍ من الدرجة الإضافية يدفع نحو مزيدٍ من موجات الحرّ والجفاف والأمطار الغزيرة وذوبان الجليد وارتفاع منسوب البحار. وتبدو مناطق القطب الشمالي الأكثر تأثّراً، إذ يُتوقّع أن ترتفع حرارتها خلال السنوات المقبلة بأكثر من ثلاثة أضعاف المعدّل العالمي. من جهتها، أشارت نائبة الأمين العام للمنظمة، كو باريت، إلى أنّ «التقارير لا تُظهر أي بادرة لالتقاط الأنفاس خلال الأعوام القادمة، ما يعني أنّ الآثار السلبية على الاقتصادات والأنظمة البيئية وحياة البشر ستتزايد». أوروبا بين الالتزام والمراجعة في المقابل، تشهد الساحة الأوروبية نقاشاً محتدماً حول مستقبل سياسات المناخ. بينما تواصل المفوضية الأوروبية الدفع نحو هدف خفض الانبعاثات بنسبة 90 في المئة بحلول عام 2040 مقارنةً بعام 1990، تسعى بعض الدول الأعضاء إلى إدراج بند «المراجعة» ضمن هذا الهدف، بما يتيح لاحقاً تخفيف الالتزامات في حال تغيّرت الظروف الاقتصادية أو تعثّر تطوير التقنيات الخضراء. تورد مسوّدة نتائج القمّة الأوروبية أنّ القادة سيأخذون في الحسبان «التطوّرات العلمية والاقتصادية والتكنولوجية»، في إشارةٍ إلى مخاوف دولٍ مثل بولندا وفرنسا ولاتفيا من أنّ الأعباء المالية قد تعيق تحقيق الأهداف، وأنّ الأراضي الزراعية والغابات لن تتمكّن من امتصاص الكميات المطلوبة من ثاني أكسيد الكربون. وفي الوقت نفسه، تُحضّر بروكسل آليةً جديدة لضبط الأسعار في سوق الكربون الأوروبي، في محاولةٍ لتهدئة القلق من ارتفاع فواتير الطاقة. وبموجب المقترح، سيُضاعف عدد تصاريح الانبعاثات التي تُطرح في السوق عند تجاوز السعر عتبة 52 دولاراً أميركياً للطنّ، لتفادي التقلبات الحادّة وضمان استقرار الاستثمار في التقنيات النظيفة. واشنطن... لحنٌ مغاير بينما ينشغل العالم بالبحث عن سبل لكبح الاحترار، يُغرّد الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، خارج السرب. بعدما أعاد الاستثمار في الموازنة الجديدة في الوقود الأحفوري باعتباره «ركيزة ازدهار الاقتصاد الأميركي»، يشجّع ترامب أنصاره على مقاومة «الهيستيريا المناخية» كما يصفها، بالتزامن مع إلغائه القيود المفروضة على شركات النفط والغاز. الجدير بالذكر أنّ الحال الذي وصل إليه المناخ اليوم يتحمّل ترامب مسؤوليةً كبيرة عنه أيضاً، بسبب إفشاله الخطوة العالمية الأبرز في مواجهة التغيّر المناخي عام 2015، إذ سرعان ما أخرج الولاياتالمتحدة من التزاماتها حيال تعهّدات قمّة باريس المناخية في ذلك العام، فور وصوله إلى البيت الأبيض للمرّة الأولى في العام التالي. أمّا أوروبا، التي تُظهر جدّيةً ظاهرياً في نجدة مناخ الكوكب، فهي غارقة في وحل الصراعات السياسية والعسكرية المتجدّدة، ما ينعكس مباشرةً على إمدادات الطاقة وأسعارها، وهي أمورٌ تقدّمت لاحتلال أولويات القارّة العجوز. وسط التعقيدات والانقسامات المتزايدة، وعودة ترامب إلى المعادلة الدولية، لا يجد صراخ الأمين العام للأمم المتحدة ولا منظمات الأرصاد أيّ آذانٍ صاغية. حتّى قمم المناخ السنوية تحوّلت إلى فولكلورٍ فارغ من أي خطواتٍ عملية. وبينما أسهمت الدول الصناعية والغنية الكبرى بشكلٍ رئيسي في الأزمة المناخية، تُترك الدول النامية لمواجهة التداعيات الكارثية من دون أيّ مُعين.