سبب رئيس من أسباب استفحال أزمتنا السياسيّة، وأزماتنا الاجتماعيّة، السعي بالفتنة بين الناس التى حذرنا منها رب العالمين فى كتابه العزيز حيث قال: "الْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ". وقال: "وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتل"، وقد يستغرب المرء أن تكون الفتنة التى قد تكون بكلمة لا يلقى المرء لها بالا أشد أو أكبر من القتل، ولكن بقليل من التدبر يتبين بأن المراد على سبيل الحقيقة باعتبار الأثر المترتب على الفتنة، فالقتل يقع على شخص أو أشخاص محصورين وإن كثر عددهم، بخلاف الفتنة فإن أثرها قد يمتد إلى أناس لا ناقة لهم ولا جمل، وقد يتدحرج حتى يتجاوز حدود الزمان والمكان، فيتخطى حدود دولته الجغرافية، وتتوارثه الأجيال، وقد صدق رسولنا الكريم فى كل ما قال ومنه "إنَّ العبد ليتكلّم بالكلمة – مِنْ رضوان الله – لا يُلْقِى لها بالاً، يرفعه الله بها فى الجنة، وإن العبد ليتكلم بالكلمة – من سَخَط الله – لا يُلْقِى لها بالاً، يهوى بها فى جهنم"، والمتأمل فى تاريخنا الإسلامي يرى حروبا نشأت بين سلفنا الصالح بسبب تلك الفتن التى نجح أصحابها فى تصوير الوهم حقيقة يكون القعود عن حمل السلاح للتعامل معها تخاذلا لا يناسب مقام حامله، وهذا الذى حدث بين صحابة رسول الله – صلى الله عليه وسلم – من اتهام لسيدنا عثمان – رضي الله عنه – بتولية أقاربه مناصب الدولة وانتهى باستشهاده – رضي الله عنه، واتهام سيدنا على – كرم الله وجهه – من ترك القصاص من قتلة سيدنا عثمان، وتسبب فى موقعة الجمل، واحتدام الخلاف بين سيدنا على كرم الله وجهه وسيدنا معاوية – رضي الله عنهما – وبين أبناء سيدنا على والأمويين، وما ترتب على كل هذا من سفك للدماء وانقسام بين سادتنا مازالت آثاره باقية إلى يومنا، وأظنها ستبقى إلى قيام الساعة، ما هى إلا بعض مظاهر لفتن نجح أصحابها فى تفعيلها، وحتى عصر الرسول الأكرم – صلى الله عليه وسلم – لم يخل عن فتن لم تلق نجاحا مماثلا بفضل الوحي الذى كشف زيفها وأبطل مفعولها، ومن أبرزها فتنة الإفك على أم المؤمنين وأبيها الرضا من رب العالمين. ولا أظن أن مسلما أو مسلمة يعجز عن تذكر مصيبة أو أكثر من المصائب التى حلت بالأمة من جراء الفتن التى سعى لها من لا يخافون يوم الوقوف بين يدي الجبار، وآثارها الباقية بيننا مع مرور كل هذه القرون، ومع ذلك مازال كثير من الناس يمارس الفتن والإفساد بين الناس، ويستمتع كلما أوقد نارا بينهم ليس هو ولا أحبته بمأمن من لهيبها، وإذا أردت أن تقف على بعض الفتانين فى أيامنا، فما عليك إلا أن تتدبر بعض الأحداث التى وقعت فيما يقارب الأربع سنوات الأخيرة، فبعد أن كادت كلمة الشعب تتوحد فى الخامس والعشرين من يناير، وتلاحم الناس من المسلمين وغير المسلمين فى ميدان التحرير وغيره من الميادين، لا تفرق بينهم إلا وقت الصلاة حيث يصلى المسلمون، ويحرسهم المسيحيون، وخرج الشباب والفتيات والأطفال يقتطعون جزاء من نفقاتهم ليزينوا بها الشوارع والميادين لتتضاءل أمام جهودهم جهود عمال هيئات النظافة والتجميل، حتى أطلت رءوس الفتنة من محترفي الانتخابات والتزيين لها، وانتصر أشرهم فأوقعنا فى اختيار من صدم الناس فيهم، وكانت الصدمة كافية لاختفاء الصور الجميلة التى رسمتها جهود الشباب والفتيات والأطفال وهم يزينون الأرصفة، ومن قبلها صورة التلاحم بين الكبار والصغار من جميع فئات المجتمع، وكأن الذين ظهروا فى ميدان التحرير وفى شوارعنا ليسوا منا ولم يعد لهم وجود بيننا، حيث ظهرت خفافيش الظلام لتسيطر على المشهد، فحل محل الفرشاة فى أيدي الشباب زجاجات المولوتوف والأسلحة القاذفة بالخرطوش والرصاص الحي، وربما لا يكتفي بعضهم بهذا فيضع المتفجرات فى طريق الناس لتحل محل إماطة الأذى المأمور به شرعا، وتفنن أصحاب الفتن فى إلصاق هذه الجرائم بأبرياء زيادة فى تأجيج نار الخلاف، وحتى لا تضع الحرب أوزارها، ولن يعدموا مبررا لجرائمهم الشنعاء، والتى أفقدت حتى البنات حياءهم، وحملة القرآن تدبر معانيه، وصرفت بعض طلاب العلم الشرعي إلى الإجرام الشعبي، واتهمت الرموز الأنقياء بما ليس فيهم ظلما وزورا، واختلط الحابل بالنابل، واحتار الحليم، ومن العجب العجاب نجاح الفتن فى قلب الحقائق، حيث اعتقد بعض الناس أن قتل الآمنين من الجهاد المشروع، وأن الانتحار لقتل الناس يُعد من أعلى درجات الشهادة، وان قتل الأبرياء الآمنين يُعد قصاصا لدماء المجرمين الذين لقوا حتفهم وهم يقتلون الناس ويحرقون الوطن، هذا على المستوى السياسي. أما على المستوى الاجتماعي وهو لا ينفك عن السياسي، فأبرزه استغلال الكوارث والأخطاء التى تقع هنا وهناك لتأجيج الخلاف وتزكية الانفلات، فما من مصيبة تقع إلا وتلصق بفصيل من المتناحرين سياسيّا، لا يعنى بمن تلصق بقدر ما يعنى المُلصِق إحداث الأثر، ولذا ربما يلصقها فصيل بنفسه إن رأى أن هذا هو الذى سيحدث الفوضى أكثر من إلصاقها بخصمه، فحريق يلتهم ما يقارب الثلاثين من خيرة الشباب بسوهاج يلصق بالإخوان، وكل قتيل يسقط فى شوارعنا قتله الجيش أو الشرطة، وجهود الأزهر لرأب الصدع قى أسوان وهذا من أغرب ما رأيت يُعد انشغالا من الأزهر عن مهامه إلى أمور ليست من شأنه، وخفافيش ظلام تسعى يائسة بائسة خائبة بإذن الله لإفشال المصالحة، بعد أن استغلت الخلاف وأزكت ناره فأوقعت هذا القدر من الضحايا من أهل أسوان، وقادة فتنة يجلسون أمام كاميرات ينشرون سموما تضغط على أعصاب ونفوس الثكالى وتعرض صورا تقشعر لها الأبدان، ولكن هيهات فبإذن الله لن يرتفع صوت الرصاص، وإنما كلمات الصفح والعفو ومصافحات السلام الآتية بإذن الله تعالي. وفى الختام أقول لهؤلاء وهؤلاء: "وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ".