شهد الأسبوع الماضي سقوط دكتاتور عربي جديد حكم بلاده بمفرده أكثر من أربعة عقود، وتشبث بالسلطة إلى أن قتل شر قتلة. لم يتعظ هذا الدكتاتور واسمه معمر القذافي، بما جرى لغيره من الحكام العرب المستبدين، الذين أطاحت بهم شعوبهم في ثورات عارمة سميت بالربيع العربي. وكيف له أن يتعظ وهو يعتبر الشعب الذي ثار ضده مجرد "جرذان وفئران" وغيرها من الأسماء القبيحة؟ وكيف له أن يتعظ وهو لم يسمع منذ حكمه إلا صوتاً واحداً مؤيداً لكل أفعاله، وهو صوت بطانته التي كانت تزين له الأمور حتى أوردته موارد الهلاك؟! بين هذا الدكتاتور والآخرين من أمثاله، قواسم مشتركة وسمات شخصية متكررة، لعل أولها كما قلنا عدم الاتعاظ بأحداث التاريخ، ولو كانت تلك الأحداث قريبة ومعاصرة، كما هو حادث منذ يناير من هذا العالم، ناهيك عن الاتعاظ والاعتبار مما هو مسطر في بطون الكتب وعلى ألسنة الرواة من عاديات الزمان وتقلب الأيام، ظناً من هؤلاء أن ما حصل لغيرهم إنما هو شأن خاص، وليس قانوناً اجتماعياً عاماً تسري قوته على كل الحالات المشابهة. ترى، مَن مِن هؤلاء لم يعط الفرصة تلو الأخرى، لكي يتنازل عن سلطانه ويتخلى عن كرسيه ليخرج معززاً مكرماً، حافظاً لحياته وحياة أسرته والمقربين له، مع ما كسبه من ثروة طائلة تؤمن له ولمن معه رغد العيش؟ لو اتعظ هؤلاء لجنبوا أنفسهم ومن في معيتهم، ذلك المصير الأسود الذي نشاهد بعضاً من فصوله حية على شاشات التلفزيون. وكانوا أيضاً يستطيعون تجنيب شعوبهم وبلدانهم الدمار الذي لحق بها، وحقنوا دماء الأبرياء الذين تساقطوا في ساحات الوغى يطالبون بأبسط حقوقهم الإنسانية، تلك الحقوق التي لم يعر أمثال هؤلاء للمحافظة عليها أدنى اهتمام، بل تلك الحقوق التي انتهكوها بشكل غاشم وفج! المشترك بين هؤلاء المستبدين الدكتاتوريين، أيضاً، إفقارهم لبلدانهم التي تحفل بمختلف الخيرات الطبيعية، وتهميشهم لقوتها البشرية. أليست ليبيا تجثو على أكبر احتياطي للنفط والغاز في إفريقيا؟ ألم يكن العراق منذ عهد صدام حسين يمتلك أكبر احتياطي للنفط في المنطقة؟ أما مصر فثرواتها متعددة، يأتي في مقامها الأول قوتها البشرية التي كان يمكن أن تكون معيناً للتنمية الداخلية في ربوع وادي النيل، وقوة فاعلة "عصرية" يعتمد عليها المحيط العربي، لو تمت الاستفادة من هذه الثروة بتطوير التعليم وتحديثه، والقضاء على الفساد الإداري والتخلص من أمراض البيروقراطية! كلنا شاهدنا حال الليبيين على شاشات الفضائيات، وكيف أوصلهم نظام القذافي إلى ما هم عليه، وقبلها اطلعنا على حال العراقيين بالفضائيات ومن خلال العلاقات الشخصية، وأدركنا إلى أي مستوى معيشي انحدر بهم نظام صدام حسين، ونتابع "مخاضاتهم" السياسية العسيرة للخروج من إرث الماضي. أما حال الشعب المصري وما عمله حسني مبارك به خلال الثلاثين عاماً من حكمه الفاسد، فأمر يعرفه القاصي قبل الداني! هذا حال الشعب المسكين تحت ظل هذه الحكومات المستبدة، أما حال هؤلاء المستبدين الدكتاتوريين فلا يمكن تخيله، من البذخ والعز الذي كانوا يعيشون في ظله. فجأة نكتشف ومن خلال دعاوى المحاكم، أن ابني مبارك (جمال وعلاء) يمتلكان ثروة تقدر بأكثر من ثلاثمئة مليون دولار مودعة في البنوك السويسرية، وربما يكون هذا غيضا من فيض من ثروتيهما. ويكتشف المسؤولون التونسيون الجدد ثروات طائلة من النقود والذهب والهدايا، في أحد قصور زين العابدين بن علي. ويستولي الثوار على طائرات خاصة مجهزة بأحسن وسائل الراحة في مطار مصراتة، تعود إلى القذافي صاحب الجماهيرية العربية الاشتراكية الليبية، ناهيك عن ثروات مودعة في البنوك الأجنبية لدولته التي هي تحت إمرته، تقدر بما بين 110 إلى 160 ملياراً من الدولارات (بي بي سي 24/10).. والحديث يطول والشواهد لا تحصى! إنني من المؤمنين بأن هؤلاء الحكام المستبدين، الذين سقطوا خلال ثورات الربيع العربي ومن سيسقطون لا حقاً، هؤلاء جميعاً لهم "شعبيتهم" و"قواعدهم الاجتماعية"، نلحظها في من دافعوا ويدافعون عنهم بشراسة، أليست صور الرئيس حسني مبارك معلقة في الحملات الانتخابية لبعض المرشحين حالياً في الانتخابات المصرية؟! ألم يقاتل أعوان القذافي بشراسة للدفاع عنه، ولولا قوة الحلفاء لطالت الحرب لزمن لا يعلمه إلا الله؟! ثم انظروا ما يجري في اليمن وسوريا، وما جرى ويجري في العراق. وبناءً على هذه المقدمة، فقد كان هؤلاء "الزعماء" قادرين على الأخذ بمجتمعاتهم خطوة خطوة، وبشكل متدرج وسلمي، ودون تكبد هذا العدد من الأرواح والضحايا والخسائر المادية، التي تقدر بأكثر من 40 مليارا إلى الآن والحبل على الجرار، أقول: كان هؤلاء الزعماء بمقدورهم "دخول التاريخ" من أوسع أبوابه، لو أنهم اتسموا بالواقعية السياسية وقرأوا التاريخ بشكل سليم، واستخلصوا منه الدروس والعبر، وأخذوا بأيدي شعوبهم إلى الديمقراطية. ولو فعلوا لكانوا قد نزلوا من كرسي السلطة رويداً رويداً، واستقروا في قلوب شعوبهم ووجدانها. لكن، كما قيل، فاقد الشيء لا يعطيه!