ها هو القعطبي يدندن على أوتاره الثلاثة، كأنه يعزف على شرايين القلب.. كأنه يحصد حقولاً من القشعريرة.. تتحوَّل الأغنية إلى نبيذ وأنا أرى أحمد الحسني يسرّ صوته ويعلنه.. نضع كأس القطعبي، ليأتي محمد مرشد ناجي بدِنانه، فيرتدي ميدان السبعين ثوب الخط الطويل.. تمتلئ الطريق بالتناهيد..يرتشفُ الحسني آخر نغمة من عود القعطبي ويغادر.. يقف أمام صاحب البقالة الذي لا يشمُّ خمرة الموسيقى،ولا يعرف ما معنى لدغة الوتر.. لم يكن جون لامبرت يبالغ حين قال إن الغناء طب الأرواح.. ولم يكن بيرم التونسي يدري أن الطبّ سيضع الموسيقى في روشتة المريض، حين قال: المغنى حياة الروح، يسمعها العليل تشفيه..وتدواي كبد مجروح، تحتار الأطباء فيه. أستمع إلى الموسيقى فأشعر أنني روح فقط.. أشعر بمعراج الترانيم يأخذني بعيداً، صوب مدن الضوء والعصافير والمياه الملوَّنة.. أرى اللحن يتلوَّى بين الأوتار ويصعد كداليةٍ مُستعجلة حتى يتمكَّن من الإمساك بكلِّ كريات الدم.. كيف لهذا الشجن أن يفتح زجاج السيارة لنستقبل البرد بكلِّ أريحية!! تذكرت المشهد الأخير من فيلم التيتانيك، حين أخذ الموسيقيون كمنجاتهم، وكأنهم أرادوا مقاومة الموت بالموسيقى، أرادوا أن تكون الموسيقى هي الطريق التي يعبرون بها إلى السماء.