حينما يبرأ أحد أعضاء الجسد من مرض خبيث نقول تعافى الجسد بأكمله، وقد كنت ومازلت ألوم وأعيب على المثقفين والإعلاميين خصوصاً والسياسيين عموماً في وطني ترديدهم في مثل هذه الأيام من كل عام بالقول والكتابة والتصريح: إن يوم الثلاثين من نوفمبر كان يوماً لاستقلال جنوب الوطن من الاحتلال البريطاني البغيض، فخضوع متر واحد من الوطن لاحتلال أو انتقاص للسيادة يعني خضوع الوطن كل الوطن لذلك الاحتلال وذلك الانتقاص للسيادة، وبالتالي فإن الثلاثين من نوفمبر هو اليوم الذي تطهرت فيه تربة (اليمن) من دنس آخر جندي بريطاني كان يلوث بأنفاسه الكريهة كل سهولها وجبالها وسواحلها ومدنها وقُراها من أقصى نقطة في الشمال لأقصى نقطة في الجنوب، ومن أقصى نقطة في الشرق لأقصى نقطة في الغرب. وفي هذه الذكرى الغالية العزيزة الشامخة التي أجبر فيها الإنسان اليمني العظيم جحافل الإمبراطورية العُظمى على الرحيل صاغرةً، وهي التي كانت تتفاخر بأنها الإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، أتوجه إليك يا وطني بكلماتي، إليك يا وطني الذي أراه أعظم الأوطان والذي أعتقد أنه منبع البشرية جمعاء، إليك يا وطني وأنت صاحب السجل الأعظم في أنصع صفحات التاريخ بإرث حضاري متأصل بجذوره في عُمق الزمان، إليك يا وطني وأنت من استوطن بعض أبنائك (العماليق) شعاب مكة حول بئر زمزم وأحاطوا بأم سيدنا إسماعيل وآنسوا وحشتها في ذلك المكان الذي لم يكُن مأهولاً، إليك يا وطني وأنت من أسس نهج الشورى بين الحاكم والمحكوم بنص قرآني مبين، إليك يا وطني وأنت من استوطن بعض أبناءك المدينةالمنورة (أوساً وخزرجاً) فكانوا أنصار الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وأسهموا في كل الغزوات التي خاضها الحبيب المصطفى إعلاءً لكلمة الحق التي جاء بها ومحواً لعار عبادة الأوثان، إليك يا وطني وأنت من كان أبناؤك في مقدمة من رفعوا راية الإسلام في جيوش الفتوحات الإسلامية المتحركة لمشارق الأرض ومغاربها وأبلوا فيها البلاء الحسن، إليك يا وطني وأنت من اختصك الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم – وهو الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى – بأحاديث نبوية شريفة، ودُعاء لله ليبارك باليمانيين في مواقف متعددة، إليك يا وطني وأنت بكل ما تقدم وما فاتني أن أسطره في هذه العُجالة – وهي ليست أكثر من غيض من فيض – من تجعل كل أهل الأرض تواقين للانتماء إليك لو أنهم علموا وتيقنوا من عظيم فضلك ومكانتك بين الأمم. إليك في البدء أعتذر يا خير الأوطان بالأصالة عن نفسي ونيابةً عن كل عُشَّاق تربتك الطاهرة في هذا اليوم الخالد، فبعض أبناءك اليوم خانهم العقل وودعوا المنطق وتاهت بوصلة أفئدتهم وشاهت وجوههم، طمعاً بمالٍ قذر قادم من خارج الحدود من المتربصين بك، مالٌ ملوث مُسخَّر لتدميرك وتجزئتك بأيديهم، وهم يدعون بجهالة وتيه وتكبر أن البعض الآخر من أبناءك محتلين لرقعة منك، بل ويصل بهم الحال – هداهم الله – إلى عقد مقارنات هزلية ظالمة بين الاحتلال البريطاني وما يصورونه على أنه احتلال (يمني) لجزء أصيل من تربتك الطاهرة، متباهين بغباء شديد وتناقض صارخ بأنهم الأكثر علماً وثقافة وتطوراً وتحضُّراً، متناسين وغير مدركين حجم التناقض الذي أوقعوا أنفسهم فيه، فكيف لمن يدعي أنه لأكثر علماً وثقافةً وتطوراً وتحَضُّراً أن يدعوا لما يدعون إليه وبإصرار منقطع النظير، ومثير للتعجب والدهشة والحيرة ؟!، مهما كانت المبررات ومهما بلغت المظالم التي يتشدقون بها ليتلاعبوا بعواطف ومشاعر وعقول بعض من يعيشون بين ظهرانيهم، وبلغ بهم الفجور إنكارهم شرف الانتماء إليك، وهم يطالبون بما يعتقدون أنهم يمتلكونه من عِلم وثقافة وتطور وتحضُّر بانسلاخ مواضع أقدامهم عن باقي أجزاء الجسد (اليمني) الذي ينظرون لمن يعيش فيه من أبناء جلدتهم بدونية واستعلاء وتحقير، كون أولئك (كما يدَّعون) متخلفين رجعيين، وينطلقون من ذلك المنطق المعتوه السخيف أن الوحدة اليمنية المباركة التي تمت في العام 1990م وتحديداً في ال22 من مايو العظيم ليست سوى خطأ تاريخي لا يُغتفر، رافضين الاعتراف والإقرار بأن ذلك الحدث التاريخي الفريد هو النقطة المضيئة الوحيدة في التاريخ المعاصر للأمتين العربية والإسلامية، وبأنه مهما بلغت المظالم والاختلافات والتباينات، فإن الأمر لا يمكن أن يصل لما وصلوا إليه من الشطط في أطروحاتهم ورؤاهم ودعواتهم الجاهلية المتخلفة للقذف ب (اليمن) لما قبل إعادة تحقيق وحدته العظيمة. وطني يا تاج رأسي ورأس كل من أكرمه الله وأنعم عليه بأن ينال شرف الانتماء إليك، أقف بين يديك على استحياء والخجل يغمرني من قمة رأسي لأخمص قدميَّ، وسيادتك منتقصة في يوم يُفترض فيه أن يكون يوم استقلالك واستعادة عزتك وكرامتك فإذا به يتحول بفعل بعضاً من السياسيين المحسوبين زوراً وبهتاناً أبناءً لك، بينما هم قد تحولوا إلى مسوخ قبيحة لا همَّ لها إلا تصفية حسابات شخصية مقيتة، واختصروا الوطن في أنفسهم، فتحولوا إلى مجرد أقزام طالما لم تُدرك عقولهم – إن كان لهم عقول أصلاً تحت عظام جماجمهم – وأفئدتهم – إن كانت صدورهم تحتوي قلوباً يعقلون بها – أنهم فِعلياً إنما ينحرون وطنهم بسهام سمومهم الملعونة، وأن لعنة الأجيال القادمة ستحل عليهم لا محالة طالما قدموا مصالحهم الشخصية على مصالح وطنهم العُليا، ومصيبة المصائب والكارثة الماحقة أن أولئك يستمتعون بمأكلهم ومشربهم ومرقدهم، وينعمون بحياتهم دونما ذرة من حياء أو خجل. وطني يا من ليس كمثلك وطن بالأرض، أقف بين يديك عاجزاً عن الكلام أو الوصف أو التبرير وأشرف الرجال وأكرمهم فيك يدفعون حياتهم وتُهدر دمائهم وتُنتزع أرواحهم وتُنحر رقابهم أو تخترق رصاصات الغدر والخيانة أبدانهم الزكية، دون أن يخوضوا معركة متكافئة أو مواجهة حقيقية مع عدو غادر جبان لا يعرف للحياة معنى ولا للنفس البشرية أي قيمة، ولا يجدون وقد صاروا موسدين تحت الثرى من يرعى أهاليهم وذويهم أو يقتص لهم أو ينتصر لما آلت إليه أجسادهم الطاهرة، ونحن نحتسبهم عند الله من الشهداء في أعلى مراتب الجنة، طالما غاب النظام وتحولت يا (وطني) لمجرد لجان تتشكل ولا نلمس لها أي نتائج تُذكر. وطني الذي إن شُغِلتُ بالخُلدِ عنّه نازعتني إليه في الخُلدِ نَفسي، بالرغم من كل ما تقدم من الأمثلة المحدودة مما تعانيه من مواجع وآلام، ستظل وإلى يوم القيامة عزيزاً شامخاً حُراً أبياً عصياً على سفاهات السفهاء وحماقات الحمقى، ولن ترى الدنيا على أرضك يوماً ما بمشيئة الله وصياً، فمهما تكالبت عليك المطامع أو عصفت بك الأنواء أو سال لُعاب الخونة والعملاء، ومهما دار بخُلد أولئك جميعاً تجاهك من أحلام مريضة عقيمة، فإن فيك من الرجال الصناديد الأوفياء الشُرفاء، وفيك من النساء شقائق أولئك الرجال الرافعات رؤوسهن بك فخراً واعتزازاً، من هم على أتم الاستعداد والجاهزية مستمدين العون من الله لأن يبدلوا أحلام أولئك السُفهاء الحمقى إلى كوابيس تقُض مضاجعهم وتقتلعهم من عروشهم هم ومن يقف خلفهم ويحركهم كالعرائس وقطع الشطرنج، ولن يكون ما تمر به يا (وطني) بإذن الله وعزيمة أبنائك المخلصين أكثر من سحابة صيف ستزول حتماً مهما بدا أنها ستظل جاثمة على صدورنا وأنفاسنا، وستظل يا (وطني) مقبرةً لكل من يعتقد أنه يستطيع تدنيس أرضك أو السيطرة على شبر منها، حينئذٍ لن ينجح كائناً من كان أن ينتزع أو ينتقص من فرحتنا بعيد استقلالك المجيد، وسيأتي ذلك اليوم قريباً وقريباً جداً بكرم الله.