أفرغ زميلي؛ الذي يرأس تحرير يومية محلية شهيرة؛ محتويات حقيبة التبضع البلاستيكية خاصَّته، على الطاولة أمامي، وسألني بزهو الواثق من رجعيتي وتواضع خبرتي الاستهلاكية: كم تقدِّر ثمن ربطة العنق هذه؟! أفرطت في التبخيس من قيمتها متملقاً شبقه السافر لتأكيد جاهليتي، فقلت: دولاران.. قهقه ساخراً كما توقعت، وقال وهو يلوك الحروف بتشفٍّ والتذاذ، على طريقة ((جورج قرداحي)) في مسابقة المليون: بل بمائة وعشرين دولاراً أيها اليساري البائس. كنا حينها في إحدى البلدان العربية على هامش برنامج تدريبي صحفي، وكان من النادر أن يمر يوم دون أن يعود زميلي محملاً بحقيبة تبضع متخمة، يفرغها ويشرع في جلد ذائقتنا السلعية نحن الملحدين بالعولمة بسياط الأسئلة السوقية المنتصرة لقيمة زائدة افتراضية لدى صاحبها.. كان زميلي بطبيعة الحال مثالاً حياً لضحايا ((تسونامي التنميط والنمذجة الأمريكية الامبريالية)) التي اجتاحت جنوب الكرة المفقر في السنوات العشرين الأخيرة بصورة أعنف من ذي قبل، وعلى شتى المصافات، متجاوزة فضاء السوق والسلع المادية، إلى ((تسليع)) السياسة والثقافة والفكر والفن والإعلام وحتى الإنسان ذاته.. كنتيجة لهذا الاجتياح باتت القيمة في ((الماركة)) لا في السلعة أو في جدواها قياساً بما تحققه من كفاية وسداد للحاجات البشرية الملحة على مصاف الوجود. وبوصف ((الماركة)) حصرية الامتلاك لمركز السيطرة الكونية على عالم بات سوقاً، فإن هذا المركز ذاته هو الذي يتولى تعريف كنه ((القيمة)) وتقدير مستوياتها وأنماطها حصراً.. ينصرف هذا ((التمريك من الماركة وأميريكا)) على القيمة الإخبارية للأحداث في التناول الإعلامي المعولم الذي يغدو لديه خبر ((احتجاز رهينة في شقة ببلجيكا)) أثرى وأوفر قيمة لذاته، فيما لا قيمة ((لمقتل مائة وعشرين طفلاً وطفلة في حمص أو بغداد وإسلام آباد ورداع)) إلا بتوظيفه كقيمة مساعدة حافزة في إطار تسويق ((الثورة الماركة)) و((الإرهاب الماركة)) و((الديمقراطية الماركة)) كمنتجات أمريكية حصرية لا غنى للعالم عن استهلاكها وهضمها.. إن ((حالة هبة الذبحاني)) الفتاة الجامعية التي تتلقى تهديدات على خلفية ((انفتاحها وسلوكها العصري)) من قوى يصفها خطاب السيطرة ب((الظلامية))، هي ((ماركة)) تتوافر على المزايا المطلوبة لإثارة حماس المناصرة لدى أكثرية الشبيبة والنخبة وإلهاب مخيلاتهم، أكثر بكثير مما تتوافر عليه مشاهد حية لجثث وأشلاء عشرين تلميذة ابتدائية تتناثر على إسفلت شارع ((بِرداع)) إثر واحدة من أبشع الجرائم التي شهدتها البلد في غضون الأربعة أعوام الفائتة.. ببساطة فإن مذبحة "رداع" – في معيار سوق الاستهلاك الإعلامي المعولم - لا ترقى لمصاف ((ماركة)) تستحق أن يبدد النخبة أوقاتهم الثمينة في التسويق لها واستهلاكها نثراً وشعراً كالحال في معضلة ((هبة الذبحاني)) الافتراضية.. إن خصلات تلميذات ((رداع)) ليست شقراء و((مريلاتهن)) ليست ((ستايل)).. وبالنسبة لزميلي "صائد الماركات" ونظرائه فإن المذبحة المروعة لا تحضر إلا بوصفها معادلاً موضوعياً لرباط عنق عتيق في ((حراج ملابس قديمة بسوق شعبية))، يهين ذائقته عوضاً عن احتفائه؛ ففي مدينة نائية ومغمورة؛ حيث لا "بيتزا" ولا "مولات" ولا "سجائر مارلبورو"؛ لا قيمة للإنسان ولا وزن.. أكاد أسمعه يقهقه الآن بالضحالة ذاتها ساخراً من جاهليتي: ((خليك مودرن وشوف الناس كيف عايشة ياعبده جيفارا..)).