أفكِّر بالكتابة الآن كما لو أنني أمارس التطبب!! يُقال إن بعض الكُتَّاب يمارسون الكتابة لغرض الاستشفاء، لأنهم بالضرورة مرضى!! فحين تنعدم كلُّ وسيلة في التنفُّس تبقى الكتابة هي المخرج الوحيد لكلِّ هذا البكاءِ الذي يتكوَّم في الحلق، كما تتكوَّم الغِلالُ في الحقول الصغيرة.. يحدث أن تستمع إلى أغنيةٍ فتقشعرّ بقوة، وأنت تعرف أنها رديئة، لكنكَ كنتَ مهيئاً لتلك الرعشة.. ولامَسَ عازفها وتراً في دواخلك، فتتساقطُ كثيابٍ مُعلَّقة على حبلِ غسيلٍ انقطع فجأة. مرارةٌ لا مزيد عليها، حين تمرُّ عليك أوقاتٌ لا تستطيع أن تقيس فيها مستوى إحساسك بما حولك!! وحين تفكِّر بعقلية نعجة،ترى الدَّمَ الكذبَ يسيلُ من القمصان المتخاصمة على حبال الغسيل التي لن تنقطع هذه المرة، لأن المنغِّصات تدوم أكثر. كطيرٍ أضاع خريطته في سماءٍ لا تعرف شيئاً عن ابن السبيل.. تحسُّ أنك بحاجةٍ إلى كتابة رسالة لأحدهم، رغم أن صوته أقرب إليك من حروف الكيبورد!! ربما أن هناك بُعداً آخر تريد التعرف على مجاهله.. رغم أن البُعد الذي أنت فيه أوسع..تماماً كالطفل الذي يبكي حال خروجه إلى الدنيا، رغم أنها أوسع مما كان فيه وأرغد.. كما يرى ابن الرومي..وربما لأن يقينك أن من تكتب إليه جاء من آفاقٍ عُلوية جعلك تحدثه بكلامٍ غير منطوق.. كون العبارة تضيق في أفقه المتسع !! ها أنا أحرقُ في رئتيَّ غاباتٍ من التبغ والقلق.. تبغٌ حنونٌ يمنحني موتاً بطيئاً لأنني لستُ مستعجلاً.. وقلقٌ يجمع كريات دمي كلها في مرمىً واحد، كما لو أنني مظليٌّ يقفز للمرَّة الأولى فتخونه مظلَّته.. أبدو كمن يقضي إجازته بداخل سيارة إسعاف بعد أن أوحشته الأرض وضاقت عليه السماء.