المشرف العام خراز : النجاحات المتواصلة التي تتحقق ليست إلا ثمرة عطاء طبيعية لهذا الدعم والتوجيهات السديدة .    الحوثيون يزرعون الموت في مضيق باب المندب: قوارب صيد مفخخة تهدد الملاحة الدولية!    شيخ حوثي يعلنها صراحة: النهاية تقترب واحتقان شعبي واسع ضد الجماعة بمناطق سيطرتها    أرسنال يفوز من جديد.. الكرة في ملعب مان سيتي    دعاء يغفر الذنوب والكبائر.. الجأ إلى ربك بهذه الكلمات    مارب.. تكريم 51 حافظاً مجازاً بالسند المتصل    الحوثيون يلفظون أنفاسهم الأخيرة: 372 قتيلاً خلال 4 أشهر    " محافظ شبوة السابق "بن عديو" يدقّ ناقوس الخطر: اليمن على شفير الهاوية "    الدوري الاسباني: اتلتيكو مدريد يفوز على مايوركا ويقلص الفارق مع برشلونة    رسالة حوثية نارية لدولة عربية: صاروخ حوثي يسقط في دولة عربية و يهدد بجر المنطقة إلى حرب جديدة    مأرب تغرق في الظلام ل 20 ساعة بسبب عطل فني في محطة مأرب الغازية    مقرب من الحوثيين : الأحداث في اليمن تمهيد لمواقف أكبر واكثر تأثيرا    ريال مدريد يسيطر على إسبانيا... وجيرونا يكتب ملحمة تاريخية تُطيح ببرشلونة وتُرسله إلى الدوري الأوروبي!    تكريم مشروع مسام في مقر الأمم المتحدة بجنيف    الرسائل السياسية والعسكرية التي وجهها الزُبيدي في ذكرى إعلان عدن التاريخي    17 مليون شخص يواجهون حالة انعدام الأمن الغذائي باليمن.. النقد الدولي يحذر من آثار الهجمات البحرية    يا أبناء عدن: احمدوا الله على انقطاع الكهرباء فهي ضارة وملعونة و"بنت" كلب    آرسنال يفوز على بورنموث.. ويتمسك بصدارة البريميرليج    الرئيس الزبيدي: نلتزم بالتفاوض لحل قضية الجنوب ولا نغفل خيارات أخرى    الثلاثاء القادم في مصر مؤسسة تكوين تستضيف الروائيين (المقري ونصر الله)    الحوثيون يستعدون لحرب طويلة الأمد ببنية عسكرية تحت الأرض    #سقطرى ليست طبيعة خلابة وطيور نادرة.. بل 200 ألف كيلومتر حقول نفط    من يسمع ليس كمن يرى مميز    معاداة للإنسانية !    مكتب الأوقاف بمأرب يكرم 51 حافظاً وحافظة للقران من المجازين بالسند    نقابة الصحفيين والإعلاميين الجنوبيين تصدر بيانا مهما في اليوم العالمي لحرية الصحافة (3 مايو)    صحة غزة: ارتفاع حصيلة الشهداء إلى 34 ألفا و654 منذ 7 أكتوبر    في ظل موجة جديدة تضرب المحافظة.. وفاة وإصابة أكثر من 27 شخصا بالكوليرا في إب    أول مسؤول جنوبي يضحي بمنصبه مقابل مصلحة مواطنيه    من هي المصرية "نعمت شفيق" التي أشعلت انتفاضة الغضب في 67 بجامعة أمريكية؟    بدء دورة للمدربين في لعبة كرة السلة بوادي وصحراء حضرموت    الرئيس العليمي يوجه بالتدخل العاجل للتخفيف من آثار المتغير المناخي في المهرة    تعز مدينة الدهشة والبرود والفرح الحزين    منظمة: الصحافة باليمن تمر بمرحلة حرجة والصحفيون يعملون في ظروف بالغة الخطورة    وفاة فتاة وأمها وإصابة فتيات أخرى في حادث مروري بشع في صنعاء    اسقاط اسماء الطلاب الأوائل باختبار القبول في كلية الطب بجامعة صنعاء لصالح ابناء السلالة (أسماء)    المخا الشرعية تُكرم عمّال النظافة بشرف و وإب الحوثية تُهينهم بفعل صادم!    تن هاغ يعترف بمحاولةا التعاقد مع هاري كاين    أفضل 15 صيغة للصلاة على النبي لزيادة الرزق وقضاء الحاجة.. اغتنمها الآن    الهلال السعودي يهزم التعاون ويقترب من ملامسة لقب الدوري    معركة مع النيران: إخماد حريق ضخم في قاعة افراح بمدينة عدن    تتقدمهم قيادات الحزب.. حشود غفيرة تشيع جثمان أمين إصلاح وادي حضرموت باشغيوان    بالفيديو.. داعية مصري : الحجامة تخريف وليست سنة نبوية    الوزير البكري يعزي الاعلامي الكبير رائد عابد في وفاة والده    صحيح العقيدة اهم من سن القوانين.. قيادة السيارة ومبايض المرأة    بعد إثارة الجدل.. بالفيديو: داعية يرد على عالم الآثار زاهي حواس بشأن عدم وجود دليل لوجود الأنبياء في مصر    لماذا يُدمّر الحوثيون المقابر الأثرية في إب؟    ناشط من عدن ينتقد تضليل الهيئة العليا للأدوية بشأن حاويات الأدوية    الارياني: مليشيا الحوثي استغلت أحداث غزه لصرف الأنظار عن نهبها للإيرادات والمرتبات    أثر جانبي خطير لأدوية حرقة المعدة    الصين تجدد دعمها للشرعية ومساندة الجهود الأممية والإقليمية لإنهاء الحرب في اليمن    ضلت تقاوم وتصرخ طوال أسابيع ولا مجيب .. كهرباء عدن تحتضر    الخميني والتصوف    جماعة الحوثي تعيد فتح المتحفين الوطني والموروث الشعبي بصنعاء بعد أن افرغوه من محتواه وكل ما يتعلق بثورة 26 سبتمبر    انتقالي لحج يستعيد مقر اتحاد أدباء وكتاب الجنوب بعد إن كان مقتحما منذ حرب 2015    المخا ستفوج لاول مرة بينما صنعاء تعتبر الثالثة لمطاري جدة والمدينة المنورة    النخب اليمنية و"أشرف"... (قصة حقيقية)    - نورا الفرح مذيعة قناة اليمن اليوم بصنعاء التي ابكت ضيوفها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تهافت المقال الناجم عن فساد الاستدلال
نشر في يمن فويس يوم 13 - 01 - 2013


بقلم/ د.ياسين سعيد نعمان
كلّما اتجه هذا البلد نحو المستقبل في لحظة من تلك اللحظات التي تعقب ثورات وأحداثا عظيمة كلما تكالبت قوى الهيمنة والنفوذ لتشكل حاجزاً منيعاً يصد المسيرة ويمنعها من التقدّم نحو الهدف .
وهذه القوى لا تبرز بكامل هيئتها في مثل هذه الظروف، بل تتماهى مع الحدث كي لا يجرفها تيار التغيير، وتلجأ إلى أدواتها التقليدية التي استهلكها الزمن وكثرة الاستخدام لتختبر بواسطتها أصالة وعُمق العملية الثورية، ولتفتح من خلالها باباً إلى حيث تستطيع أن تحسم أمرها منه لصالح مشروع الهيمنة والتسلّط .
والشواهد على هذه الحقيقة كثيرة، وهي لا تقف عند تلك المحطّات التاريخية التي مر بها اليمن منذ عقود، وإنما تمتد إلى يومنا هذا وبصورة تتكرر فيها الأدوات والخطاب بنفس المفردات والمضمون، وربما نفس التحالفات، وإن تقاطعت حيناً وافترقت حيناً آخر؛ لأسباب تتعلق بحسابات الربح والخسارة .
وحتى وهي تلتئم اليوم بهذا القدر أو ذاك وتعيد بناء موقفها المقاوم لعملية التغيير من منطلق ما يمكن أن ترتّبه هذه العملية من تبدلات جوهرية في منظومة المصالح الاجتماعية لم تكلّف نفسها البحث عن أدوات جديدة تختلف عمّا تعودت عليها، لزوم احترام وعي الناس، بما في ذلك إعادة بناء ذلك الخطاب بأسلوب يُراعي مستوى المنسوب في الوعي الجماهيري بأهمية السير في عملية التغيير حتى النهاية .
نفس القوى ونفس الأدوات ونفس الخطاب تعود مقتحمة مسار الثورة وكأن شيئاً لم يحدث في هذا البلد. تعود مسلحة بحسابات المصالح التي رتّبتها سنوات النفوذ والحُكم الطويل وما رافقها من فساد وإفساد وهدر وقهر وتدمير لنسق القيم الاجتماعية على نطاق واسع.
على خشبة المسرح يمكن أن تكون ثورياً، وخلف الستار متحكماً بخيوط اللعبة التي تنتهي بالجميع إلى نفس البوابة، بوابة "المركز الحاكم المقدّس " .
أما تجليات هذه الحقيقة في اللحظة الراهنة فقد ظهرت في صور مختلفة من التعبيرات السياسية والفكرية الصادمة للعقل الجمعي، الذي بدا في لحظ ما وكأنه قد حسم أمره مع الاستبداد وموروثه السياسي والفكري، وقد وضعته الثورة السلمية على الحُرية وفضائها الواسع، حيث يصح نقد الفكر محمولاً بإرادة هدفها السمو به وتخليصه من براثن الأيديولوجيا المتعصّبة والرغائب المثقلة بنزعة الأذى، بعد أن كانت الفكرة في صيغتها القديمة وسيلة لتحنيط العقل وترسيمه داخل تفسيرات وتأويلات تحكمية صار معها عقلاً انفعالياً لا عقلاً فعالاً .
والعقل والانفعال المثقل بعصبية الأيديولوجيا يخضع لحالة احتكار يُمارسها عليه أولئك الذين يسوقون هذا النوع من الأيديولوجيا المغلقة والمتعصبة في ظروف الإحباط التي تمر بها المجتمعات المحكومة بالطغيان والفساد .
ونقد الفكر ليس مجرد تعبير عن حالة معرفية، ولكنه تحول جذري في وظيفة العقل يومئ إلى حقيقة أن الثورات ليست مجرد تغيير للحُكام في الصيغة المادية التي تستقر فيها على طاولات الحُكم شخوص مختلفة عن الشخوص القديمة، وإنما تنتج أيضاً ثقافتها التي يعول عليها في اجتثاث ثقافة الاستبداد ليس بقوة السيف أو إغراء المال وإنما بوجاهة الحُجة ونُبل المقاصد .
وفي تناغم كامل مع هذا التوجّه المقاوم للتغيير صدر مؤخراً عن مركز البحوث والدراسات الاستراتيجية في صنعاء كُتيّب بعنوان «الحوار عمار أم دمار» للشيخ عارف الصبري. ويهدف الكتيّب في صيغته العامة، كما يتضح من الاستخلاصات التحكمية التي توصل إليها من قراءته السريعة للمشهد السياسي، إلى توظيف أيديولوجيا محسوبة على الدّين ظُلماً في المعركة السياسية الدائرة اليوم لصالح القوى المقاومة للتغيير وبناء الدولة المدنية الحديثة، وهي القوى التي يتصدرها متنفذو النظام السابق، والتي فشلت في إنتاج خطاب سياسي معبِّر عن هذا الموقف مقبول اجتماعياً، فاستعانت بهذا الخطاب القديم الذي يسهل من خلاله تسويق الموقف السياسي .
وهذا ما عبّر عنه قيادي كبير في المؤتمر الشعبي وعضو في مجلس النواب أثناء توزيع الكتيّب في المجلس بقوله: "لقد قلت يا شيخ عارف ما كان يجب أن يُقال، وبأبلغ تعبير، ونحن نتفق مع كل ما جاء في الكتيّب" .
ولم يتورّع الشيخ عارف عن الدّفاع عمّا جاء في كتيّبه مستنداً على تلك الشهادة التي أطلقها القيادي المؤتمري إياه في أكثر من مناسبة، وعند بعض ممّن حملوا عليه رسائل احتجاج وعتاب للتجنّي الذي تعامل به مع بعض القضايا والإساءات التي نجمت عن ذلك .
والحقيقة أن موضوع الكتيّب والأسلوب الذي صيغ به لا يتركان فرصة للجدال الموضوعي والعلمي، ولا أجد فيه ما يستحق التوقّف أمامه طويلاً سوى البحث عن إجابة مُقنعة للأسباب التي دفعت بالشيخ عارف إلى فبركة معانٍ لأقوال صدرت عنِّي وحملها مضامين ومعاني غير حقيقتها .
وقبل التعرّف على هذه الإجابة، هناك مسألة لا بُد من الإشارة إليها وتمثل الجذر الذي قامت عليه فكرة الكتيّب وهي الانحياز لمن أسماهم «أهل اليد والقُدرة»، أي أهل الثروة والسلاح، في تقرير مصير هذا البلد. ولما كان لكل زمان ولكل بلد «أهل يد وقُدرة» يقيّمون بنسق قيم ذلك الزمان فإنه لا يصعب علينا اليوم أن نتعرف على «أهل اليد والقدرة» الذين عناهم الكاتب، فمُعظم هؤلاء مسؤولون عن إفقار المجتمع والشعب، وهم ممن صنعوا مكانتهم بالاستناد إلى نهب ثروات البلاد، ومعه الغلاف التنظيري المستخلف لتراث الاستبداد الذي تعد فكرة هذا الكتيّب جزءًا منه. فما يضخه من إيحاءات ومضامين إلى الوعي المجتمعي لا يمكن فهمها بمعزل عن المحاولات الدؤوبة لتسويق المصالح غير المشروعة التي رتبها نظام ظالم وغير عادل والترويج لها بمثل هذا الخطاب الذي يعدها ضمن عناصر الحل والعقد لتغدو بذلك جزءاً بنية الوعي المجتمعي وثقافته .
لم يحط من قيمة الإنسان وكرامته وحُريته شيء قدر هذا الفكر الاستبدادي من خلال الإصرار على إنتاج تراتبية بغيضة تشوّه المفاهيم الحقيقية للعلاقات الإنسانية والإصرار على وضع مقاليده بيد هؤلاء من أهل «اليد والقدرة» الذين لا يمكن الركون إلى ذمة الكثير منهم عندما يتعلق الأمر بحمل الأمانة .
إن الأركان الأساسية لفكرة الكتيِّب هي مطالبة الشعب الذي قهره الظلم والفساد وبدد ثروته لصالح أساطين النفوذ فيه بأن يقبل النتائج المترتبة على ذلك، وما الحديث عن الشريعة الإسلامية السمحاء بعد ذلك إلا مجرد غطاء لتمرير هذه النتائج التي أفرزها الظلم والإفساد وتوظيف التهويمات المصاحبة لجذر الفكرة لتطويع الشعوب وتطبيعها لقبول الاستبداد والطغيان .
إن معظم «أهل اليد والقدرة» بالمفهوم الذي تجسّده حقائق الواقع الراهن في بلد حكمه الفساد والطغيان هم ممن يمكن القول إنهم يقاومون التغيير ووضعوا هذا البلد على طريق الحروب، ويضعون اليوم العراقيل أمام نجاح العملية السياسية التي من شأنها أن تفضي إلى بناء دولة مدنية حديثة بنظام عادل لكل أبناء اليمن .
هذا الهجين من القوى التي تقاطعت مصالحها في لحظة التحولات التاريخية التي استولدتها الثورة الشبابية الشعبية السلمية من رحم المُعاناة لم يكن قادراً على إنتاج خطاب سياسي رصين يسند به موقفه المقاوم للمسار الذي اتجهت فيه البلاد نحو المستقبل .
وفي الظروف التي انطلق فيها الشعب إلى فضاءات الحُرية متجاوزاً كل قيود الاستبداد بما فيها الفكر الذي ظل ينظّر هذا الاستبداد لجأت من جديد إلى نفس الخطاب التهويمي القديم، خطاب البحث في الضمائر من منظور لاهوتي، وهو خطاب لا يستدل منه سوى على عقم التفكير وضعف الحُجة باعتباره وسيلة المستبد المُثلى عندما تعوزه القدرة على مواجهة حقائق الحياة في حركتها وفي مساراتها المتجددة .
والكاتب الذي أخذ يتخفى وراء الشريعة السمحاء ليمرر الفكر الاستبدادي «لأهل اليد والقدرة» بدا كحاطب ليل، وهو ينتقل من موضوع إلى آخر عبر منهج شمولي انتقائي لا يبحث عن الحقيقة بقدر ما يبحث عن خصم ما ليصطاده قرباناً لفكرته الملتبسة، والتي وصلت إلى درجة التشوّه بخصوص الحوار الوطني ومرجعيته .
وكما قلت سابقاً، إنني لست بصدد مجادلته فيما ذهب إليه من أفكار فهذا شأنه، لكن ما ليس من شأنه ولا من حقه هو أن يفبرك معاني مغلوطة لأقوال ليستدل بها على ما أراد أن يقوله من أن الحوار لا يستند على الشريعة الإسلامية كمرجعية .
إن الخفّة التي حكمت الكاتب في تفسير الأقوال وتركيب معانٍ مجافية للحقيقة أوقعته في مغبّة فساد الاستبداد. والاستدلال الفاسد يشوّه صاحبه ويرتد عليه في المبنى والمعنى. والاستدلال الفاسد يعكس في الغالب فساد «الطوية»، ذلك أن الكاتب الذي يتبع هذا النهج في الاستدلال يتجاوز الموضوع ويتجه نحو الشخص بقصد الأذى. وهذا النوع من الكتابة لا يمارسه العلماء أو الباحثون؛ لأنه ينقص من قدرهم ويضعهم في دائرة الشك من حيث المكانة العملية أو القدرة البحثية .
فالكاتب الجاد الذي تعوزه القدرة على استنباط الأدلة القوية للوصول إلى النتيجة التي يبحث عنها، أمامه خياران لا ثالث لهما: إما أن يواصل البحث لتصحيح مسار بحثه أو أن يغض الطرف عن فكرة البحث من الأساس بعد أن يكتشف رداءة المنطلق الذي بدأ منه. وفي الحالتين لا عيب في ذلك فهو يحافظ على وجاهة المنهج الذي يتبعه ومكانته كباحث .
وكان الأولى بالشيخ عارف وهو يتقمص صفة الباحث أن يسلك خيارات الكاتب الجاد لو أنه كان حريصاً فعلاً على ترسيخ وجاهة فكرته لدى القارئ، أما وقد لجأ إلى الطريق السهل وهو الاستدلال الفاسد فهذا يعني أنه لم يكن يخدم الفكرة التي عبّر عنها وإنما خدم مشروع القوى (أهل اليد والقدرة) في الإساءة للحوار الوطني والعمل على تعطيله بأي وسيلة .
وهو لم يتورع أن يُسيء إلىّ شخصياً في استجابة تلقائية للحاجة المتعلقة بتمرير هدف هذه القوى التي أرادت أن تستعين «بالمقدّس» لتخوض به معركتها الدنيوية وأهدافها السياسية في أحسن الأحوال .
فهو يقتبس -مثلاً- فقرة من حديث طويل لي وذلك في مجرى محاولته لتأكيد أن المبادرة الخليجية ألغت سيادة الشريعة الإسلامية، ليفسرها بعيداً كل البُعد عن معناها الحقيقي ويعيد بناءها في النطاق الذي يخدم فكرته الملتبسة والمشوّهة .
فالفقرة التي وردت على لساني هي: «الحوار مفتوح سياسياً وأيديولوجياً ومعرفياً لكل الآراء المطروحة اليوم على صعيد الحياة السياسية»، والذي يستخلص منها الكاتب بشكل تحكمي ما يدل على إسقاط الشريعة كمرجعية للحوار .
إنه بحق استدلال فاسد يعكس فساد «الطوية» والموقف المسبق الذي لا يمكن أن يُفهم إلا بأنه كيدي الدلالة، حيث لا معنى هنا لحشر الشريعة الإسلامية في مبنى ومعنى الفكرة التي كنت أتحدث عنها في معرض حديثي عن الحوار الوطني. فالحوار مفتوح لكل الآراء السياسية والأيديولوجية والمعرفية، وإلا لماذا نسميه حواراً؟ والحوار في الأساس بين المختلفين وفي المختلف عليه، والدين ليس أيديولوجيا وكذلك الشريعة الإسلامية السمحاء بمصدريها الكتاب والسنة المتواترة ليست أيديولوجيا. إنما الأيديولوجيا هي في الفكر المشتق من الاجتهاد الذي أنتجه البشر، وخاصة المتعصب منه، وتصارعوا حول مفرداته ومكوناته ووقائعه، وهو لم يصبح كذلك إلا عندما أصر البعض على أن تسود أفكاره وآراؤه كتعاليم مفسِّرة للنص، وحوّل الفكرة أو الرأي إلى أيديولوجيا، كما فعل الكاتب في أحكامه المطلقة التي يزخر بها الكتيّب. إن مفهوم الأيديولوجيا لا ينصرف إلى ما فيه نص، سواءً في الكتاب أو السنة المتواترة، وإنما جزئياً إلى الفكر البشري وخاصة عندما يكون محمولاً بأدوات قهرية تحوّل الفكرة إلى أداة قمع، ومن ذلك ربط رفضها أو قبولها بالعقاب أو الثواب في الدنيا والآخرة. كما أن مضمون الأيديولوجيا هنا يتجه إلى الفكر السياسي انسجاماً مع موضوعات الحوار، وهو ما أكدت عليه في نهاية الفقرة "لكل الآراء المطروحة على صعيد الحياة السياسية ".
كنت أتمنى على الكاتب أن يتناول ما التبس عليه في صورة استفسارات تسمح بحوار جاد حول الملتبس، لا أن يصدر أحكامه المطلقة على ذلك النحو المتعالي حتى على «العلم» الذي يريد أن يقول لنا إنه ينتمي إليه. فالباحث الأصيل يبحث عن الحقيقة بأدوات مختلفة ومنهج مختلف، أما هذا الأسلوب الذي يعتمد الحشد العصبوي فهو يخالف كل المناهج العلمية ولا يُدل على أن صاحبه قد استوعب الكلمة أو الجملة التي يقذف بها إلى المطبوعة ليحنط بواسطتها فكراً بأكمله، أو أنه قد استوعب ماذا يعني أن يصدر أحكامه القطعية بالاعتماد على استدلالات فاسدة بشأن مسألة تشكل بدلالاتها الإيمانية والفقهية والعلمية المرتكز الفعلي للثراء الفكري الذي أنتجه العلماء والمجتهدون واستندوا فيه إلى النص من الكتاب والسنة والاجتهاد والقياس والمصالح المرسلة والإجماع والأعراف وحفظوها بعيداً عن عصبية الأيديولوجيا والتوظيف السياسي الخاطئ .
وفي مكان آخر من الكتيّب يقول الكاتب بادعاء لا يخلو من تحامل واضح: «الدكتور ياسين سعيد نعمان الأمين العام للحزب الاشتراكي وعضو اللقاء المشترك يؤكد على إلغاء الشريعة الإسلامية كمرجعية للحوار ويرفض كذلك اعتبار الوحدة ثابتاً من الثوابت..»، ثم يسرد عبارات طويلة من محاضرتي المشار إليها آنفاً .
نقف هنا مجدداً أمام استدلال فاسد آخر، ذلك أن الفقرات التي أشار إليها وأوردها كاملة ليس فيها ما يفيد لا من قريب ولا من بعيد عمّا أسماه رفض الشريعة الإسلامية كمرجعية للحوار، وهو استخلاص كيدي بكل معنى الكلمة ويصل إلى درجة التشويه المتعمد. وهو في استخلاصه هذا يخلط الحابل بالنابل. ففي حين يعجز عن تقديم أي دليل محترم لإدعائه فيما يخص موضوع الشريعة فإنه ينط بصورة مثيرة للتعجب، وفي نفس الفقرة إلى موضوع آخر، (وهو أن الدكتور ياسين يرفض اعتبار الوحدة ثابتاً من الثوابت) وكأنه يريد أن يقول لنا إن الوحدة ثابت ديني لا يتم الإسلام إلا به. وهو ما يعني أن اليمنيين قبل الوحدة كانوا غير مسلمين ثم أصبحوا مسلمين بالوحدة، وأنهم بدون هذه الوحدة يعودون من جديد إلى الشرك - والعياذ بالله .
والحقيقة، إنني كنت أرد على بعض ممن غيروا خطابهم السياسي فجأة وأخذوا يتحدثون عن أن الوحدة «ثابت» لا يجوز الحوار حوله. والوحدة كما نعرف صناعة بشرية تقوم على أساس تحقيق مصلحة للناس، فإذا لم تتحقق هذه المصلحة جاز لهم البحث عن صيغ أخرى يتوافقون عليها لتحقيق مصالحهم .
والوحدة تعد قيمة أيديولوجية، كما كان ينظر إليها سابقاً في صلتها بالأيديولوجيات التي كانت ترفعها وتراها قيمة بذاتها أو هدفاً مستقلاً بذاته. إذا لم تحقق الأهداف الكبرى من ورائها والمتمثلة في القوة والتلاحم والتطور الاقتصادي والاستقرار الأمني وحفظ كرامة الناس وحقوقهم، وتحولت إلى وسيلة للغلبة والنهب والفساد والطغيان والاستبعاد الاجتماعي فليس من مخرج أمام الناس سوى الحوار لإصلاحه. وهذا يعني أن الأمر مفتوح لخيارات يرتضيها الناس أنفسهم، باعتبار أنهم هم الذين صنعوها باختيار واعٍ وإدراك لمصالحهم. فإذا ما انتفى شرط المصلحة بصيغته التي أشرنا إليها أعلاه وتحولت إلى وسيلة قهر وإذلال، كما حدث في عهد النظام السابق والحروب الدموية المرذولة، وما أدى إليه ذلك من تشقق في جدار الوحدة الوطنية، فإن الأمر لن يتوقف عند حدود المناشدة بأهمية الوحدة بل يحتاج إلى معالجات جذرية وعدم النظر إليها كعنوان محنط كما تريده الأيادي التي امتدت لتنهب الزرع والضرع باسم الوحدة. وتتوقف من ثم عند خطاب سطحي يسوّق فكرة أنه بخروج «صالح» من الحُكم لم تعد هناك حاجة لمعالجة المشكلات الناجمة عن الوحدة بالصورة التي استقرت عليها بعد حرب 1994. وهي بالصورة التي استقرت عليها تحولت إلى مشكلة بنيوية لا يمكن معالجتها بالتلويح بشعار «الثوابت»، فهذا الشعار مجرد تحنيط مبكّر للحوار داخل مفاهيم مغلفة بالغلبة والقوة والتعالي على وقائع الحياة بتوظيف الأيديولوجيا المستبدة لقمع الرأي السياسي المستند على حجج ومعطيات من الواقع المعاش، وكذا الخبرات والتجارب الإنسانية في سياقاتها الوطنية المعبّرة عن الحاجة إلى الحُرية والعيش الكريم .
أما حديث الشيخ عارف عن «التقية السياسية» فلا أراه موفقاً بالمرّة فيما قاله عن التقية. حيث إن الحديث الجاد بشأنها لا يصدر إلا من متعظ. وأراني منصفاً لو طلبت منه أن يعيد قراءة ما كتبه بروح مغايرة للعصبية والتحامل ليقرر حقيقة يعلمها قبل غيره؛ وهي أنه يبني فكرته السياسية بغطاء أيديولوجي ظاهره ديني ومضمونه سياسي، وهذه هي «التقية الممقوتة ».
أما الحديث عن التكتيك السياسي فلا غبار عليه، وهو من صلب العمل السياسي، وهو واضح غير مستبطن، وأدواته واحدة في الحالتين. إن التقية في أسوأ صورها هي توظيف المقدّس لصالح غير المقدّس، والذي انتهى بالمجتمعات في مواطن كثيرة إلى الحُروب والفتن، والتدخل في السجال السياسي بأحكام مطلقة موظفة النص المجتزأ من سياقاته وبإعمال للقاعدة التي تقول «بعموم اللفظ مع خصوص السبب» بطريقة تحكمية واحترافية مما أفضى في كثير من الأحيان إلى نهايات غير محمودة.. فبدلاً من أن يصنّف الناس بين مخطئ ومصيب في سجالاتهم وحواراتهم فإنه يُعاد تصنيفهم بين خيّر وشرير، وحرام وحلال، وحق وباطل. وتصبح هذه الثنائيات المتضادة ذرائع للحروب والقتل. فالخير بموجب ذلك لا بُد أن يقضي على الشر والحق لا بُد أن ينتصر على الباطل. بينما المسألة هي اختلاف في الرأي (رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب). لكن هذا الاقتحام للمسارات السياسية بالأيديولوجيا والفكر المتعصب والإصرار على فرز المختلفين وفقاً لقواعد مغايرة تماماً لأسس العمل السياسي ومفاهيمه هو دعوة للصراع والعنف بدلاً من الحوار والتفاهم ومن ثم التوافق والتعايش واحترام الرأي الآخر أياً كانت درجة الاختلاف معه .
لقد كان التحامل واضحاً فيما كتبه الشيخ عارف ودليلا إضافيا على أنه لم يكن يناقش أفكاراً بقدر ما عبّر عن «خصومة» هو إدعاءه بأن النقاط العشرين هي نقاط الحزب الاشتراكي، وأن الاعتذار المقترح هو للحزب، منتهى المغالطة لتمرير خصومة سياسية بغطاء أيديولوجي متعصب لم يستطع معه أن يتبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود .
فالنقاط العشرون هي محط توافق كل القوى السياسية، بدءًا من القوى التي صاغت وثيقة الإنقاذ عام 2009 وانتهاءً بالقوى المشاركة في اللجنة الفنية للحوار الوطني، وكان للحزب الاشتراكي إسهام متواضع فيها كبقية القوى الأخرى. أما الاعتذار عن حرب 1994 والحروب الأخرى بما فيها حروب صعدة فلا يجب أن تأخذ البعض العزة بالإثم عندما يدور الحديث عن موضوع الاعتذار، فهي حروب مرذولة بكل معنى الكلمة، وهي التي أوجدت هذه الشروخ والتشظيات في الجدار الوطني، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن نخطو أي خطوة جادة نحو ترميم هذه الشروخ ما لم يتم الاعتذار عن هذه الحروب. والاعتذار ليس للأحزاب ولا لأي طرف من الأطراف، كما تم توضيح ذلك أكثر من مرّة، ولكن للشعب الذي تضرر من هذه الحروب أكثر من غيره. ولا بُد أن يُفهم الاعتذار على أنه قطيعة مع الحروب ونبذ للعنف ومغادرة للماضي الأليم. والاعتذار هو تصالح مع النفس كمقدّمة لتسوية الطريق للتفاهم والتصالح وإدارة الخلافات بأدوات سلمية، وكون أحد ما لا يقبله فهذا شأنه، ولكنه لا يستطيع بأي حال من الأحوال أن يفرض النتائج التي تمخضت عن الحروب بمواصلة التمسك بمنهجها. قد يتمسك بمنهج الحروب، لكن الحقائق على الأرض ستتحرك، طال الزمن أم قصر، بمنطق لا يجافي حق الشعوب في الحُرية والعدل والمساواة (أما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض) صدق الله العظيم ... والله غالب على أمره.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.