عندما وجد الإنسان العربي نفسه تاجراً لم يكن يبحث سوى عن العقلية التجارية التي حرص منذ اكتشافها على أن تكون أخدوداً من نار تذكيها حاجات سادنها الأول «المستهلك». تلك العقلية المستعملة استمرأت العداء مع هذا المستهلك وبنت على متطلباته المختلفة كل طموحاتها وتجاربها التقليدية التي تجيد فن الإغواء ولاتجيد مهارة الإغراء. ويأتي التراث العربي لينقل لنا فلسفة هذه العقلية وقانونها التجاري بوضوح يكشف حقيقة الحاضر، فمن قريش وتعرية حجّاج البيت إلى قصص حماقات النخّاسين والبزّازين والعطارين في كتب الأدب إلى بائع التمر الرديء بمكيال آثم: «أحشفاً وسوء كيلة.!!» إلى بائع التمر أيضاً في بلاد النخيل.!«كبائع التمر في هجر» وغيره. حدث كل ذلك .. وحدثت معه هوة سحيقة من الفواصل والتحفظات بين البائع والمشتري ؛ لتظل العلاقة بينهما علاقة استنزاف فحسب. مايستدعي الغرابة هو: لماذا لم تستطع هذه العقلية أن تخرج راضية من إسار ذلك التحجّر الذي يزيد في كل عصر من شبق الاحتكار أو المغالاة، على رغم اختلاطها غير مرة مع الآخر، ألم يحن الوقت بعد لهذه العقلية أن تلحق بالسياق الآسيوي الذي فجّر الأرض طوفاناً من الإبداع يغرق أعلى قمم صناعية في العالم،ولا عاصم لها منه..!! اليوم .. العقليات التجارية الجديدة تستهوي الإنسان المعاصر وتستثمر قدرته الشرائية في مجالات واسعة مثل الكماليات والديكورات وأسباب الترفيه وغيرها من مظاهر الحداثة الشكلية المبهرة في حين لايزال بعض تجار العرب يبحثون عن أقصى درجات الثراء ويعقدون الآمال على حفنة من قمح تشبع جائعاً أو قطعة من قطن تستر عورة. ماذا عندنا غير سوق يصول فيه ويجول فأر الجشع المتوحّش ينهش من نَفَس الحياة ليشبع الكل حرماناً وفاقة، وظاهر الأمر أن طموحاته ألغت حدود المنطق واستعذبت الربح في كنف الممنوع، فالتجّار وسط هذا المضمار في تناسٍ تامٍ لتفاصيل ما يحدث ، وكأنهم عازمون على تأدية رسالة سامية ابتعثهم بها عُرف البيع والشراء..! قد تكون هناك بعض الإرهاصات التي تبشّر بعهد جديد لهذه العقلية ، لكن: كيف وعبارة «جشع التجّار» مع هذا التمادي المطرز بهوس المستهلك تصبح اليوم في سياق ظاهرة المصاحبة اللغوية «Collocation» بحيث لايتم ذكر كلمة التجار إلا وذكر معهم الجشع وأكثر ما يذكر الجشع مصاحباً لهم..؟! هذا سياق ، وذاك سياق، وليس بينهما سوى مابين السموات والأرض.