سياسيون ونشطاء: تراخي الأمم المتحدة شجع المليشيا لاستغلال ملف قحطان للابتزاز    المنتخب الوطني للشباب يواجه نظيره السعودي وديا منتصف يونيو استعدادا لبطولة غرب آسيا    تقرير برلماني يكشف عن المخاطر المحتمل وقوعها بسبب تخزين المبيدات وتقييم مختبري الاثر المتبقي وجودة المبيدات    أكاديمي اقتصادي: فكرة البنك المركزي للحد من تدهور الريال اليمني لن تنجح!    انهيار مرعب للريال اليمني.. ووصول أسعار صرف الدولار والريال السعودي إلى أعلى مستوى    المشاط يدافع عن المبيدات الإسرائيلية وينفي علاقتها بالسرطان ويشيد بموردها لليمن    العليمي يطلب دعمًا لبسط سيطرة الشرعية على كامل التراب اليمني    الحوثيون يعبثون بقصر غمدان التاريخي وسط تحذيريات من استهداف الآثار اليمنية القديمة    رئيس برلمانية الإصلاح يتلقى العزاء في وفاة والده من قيادات الدولة والأحزاب والشخصيات    ذكرى إعلان فك الارتباط.. جدار جنوبي راسخ لفظ الوحدة المشؤومة    أين نصيب عدن من 48 مليار دولار قيمة انتاج الملح في العالم    هل يمكن لبن مبارك ان يحدث انفراجة بملف الكهرباء بعدن؟!    قاتلكم الله 7 ترليون في الكهرباء فقط يا "مفترين"    خاصموا الانتقالي بود وأختلفوا معه بشرف    شراكة الانتقالي وتفاقم الازمات الاقتصادية في الجنوب    يوفنتوس يعود من بعيد ويتعادل بثلاثية امام بولونيا    "ضربة قوية لمنتخب الأرجنتين... استبعاد ديبالا عن كوبا أميركا"    فيديو فاضح لممثلة سورية يشغل مواقع التواصل.. ومحاميها يكشف الحقيقة    لليوم الثالث...الحوثيون يفرضون حصاراً خانقاً على مديرية الخَلَق في الجوف    صراعات داخل مليشيا الحوثي: قنبلة موقوتة على وشك الانفجار    "يقظة أمن عدن تُفشل مخططًا إجراميًا... القبض على ثلاثه متهمين قاموا بهذا الأمر الخطير    ناشطون يطالبون الجهات المعنية بضبط شاب اعتدى على فتاة امام الناس    شاهد :صور اليوتيوبر "جو حطاب" في حضرموت تشعل مواقع التواصل الاجتماعي    شاهد : العجوز اليمنية التي دعوتها تحققت بسقوط طائرة رئيس إيران    اللجنة الوطنية للمرأة تناقش أهمية التمكين والمشاركة السياسة للنساء مميز    وهم القوة وسراب البقاء    "وثيقة" تكشف عن استخدام مركز الاورام جهاز المعجل الخطي فى المعالجة الإشعاعية بشكل مخالف وتحذر من تاثير ذلك على المرضى    مجلس النواب يجمد مناقشة تقرير المبيدات بعد كلمة المشاط ولقائه بقيادة وزارة الزراعة ولجنة المبيدات    إعلان هام من سفارة الجمهورية في العاصمة السعودية الرياض    لابورتا وتشافي سيجتمعان بعد نهاية مباراة اشبيلية في الليغا    رسميا.. كاف يحيل فوضى الكونفيدرالية للتحقيق    منظمة التعاون الإسلامي تعرب عن قلقها إزاء العنف ضد الأقلية المسلمة (الروهينغا) في ميانمار    منتخب الشباب يقيم معسكره الداخلي استعدادا لبطولة غرب آسيا    البرغوثي يرحب بقرار مكتب المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية مميز    اتحاد الطلبة اليمنيين في ماليزيا يحتفل بالعيد ال 34 للوحدة اليمنية    قيادات سياسية وحزبية وسفراء تُعزي رئيس الكتلة البرلمانية للإصلاح في وفاة والده    اشتراكي الضالع ينعي الرفيق المناضل رشاد ابو اصبع    إيران تعلن رسميا وفاة الرئيس ومرافقيه في حادث تحطم المروحية    مأساة في حجة.. وفاة طفلين شقيقين غرقًا في خزان مياه    وفاة طفلة نتيجة خطأ طبي خلال عملية استئصال اللوزتين    شاب يبدع في تقديم شاهي البخاري الحضرمي في سيئون    الريال يخسر نجمه في نهائي الأبطال    مدارس حضرموت تُقفل أبوابها: إضراب المعلمين يُحوّل العام الدراسي إلى سراب والتربية تفرض الاختبارات    كنوز اليمن تحت رحمة اللصوص: الحوثيون ينهبون مقبرة أثرية في ذمار    الدوري الفرنسي : PSG يتخطى ميتز    غموض يحيط بمصير الرئيس الايراني ومسؤولين اخرين بعد فقدان مروحية كانوا يستقلونها    ارتفاع حصيلة العدوان الاسرائيلي على غزة إلى 35,456 شهيداً و 79,476 مصابا    اليونسكو تزور مدينة تريم ومؤسسة الرناد تستضيفهم في جولة تاريخية وثقافية مثمرة    دعاء يريح الأعصاب.. ردده يطمئن بالك ويُشرح صدرك    بعضها تزرع في اليمن...الكشف عن 5 أعشاب تنشط الدورة الدموية وتمنع تجلط الدم    توقيع اتفاقية بشأن تفويج الحجاج اليمنيين إلى السعودية عبر مطار صنعاء ومحافظات أخرى    اكتشف قوة الذكر: سلاحك السري لتحقيق النجاح والسعادة    وباء يجتاح اليمن وإصابة 40 ألف شخص ووفاة المئات.. الأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر    اليونسكو تطلق دعوة لجمع البيانات بشأن الممتلكات الثقافية اليمنية المنهوبة والمهربة الى الخارج مميز    ياراعيات الغنم ..في زمن الانتر نت و بالخير!.    لماذا منعت مسرحيات الكاتب المصري الشرقاوي "الحسين ثائرآ"    في افتتاح مسجد السيدة زينب.. السيسي: أهل بيت الرسول وجدوا الأمن والأمان بمصر(صور)    هناك في العرب هشام بن عمرو !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دارفور..قضية زائفة بدأت بصراع الأشقاء على الماء والمرعى !
نشر في الجمهورية يوم 15 - 06 - 2007

منذ بداية العام «2004م» يتابع العالم كله سلسلة من المعلومات المكذوبة ، أو المبالغ فيها مبالغة هائلة ، حول النزاع القائم في دارفور ، وآثاره الإنسانية ، وأسبابه الحقيقية أو المزعومة.. وقد توجهت بعثات من مناطق شتى من العالم إلى دارفور أو إلى السودان دون أن تعنيَّ نفسها بالذهاب إلى دارفور .. ونقلت إلى وسائل الإعلام تلك المعلومات الخاطئة ، أو المكذوبة عمداً ، أو سكتت عن نفيها بعد أن تيقنت من عدم صحتها ، فشاركت بذلك في شيوع الصورة غير الصحيحة عما يجري في تلك المنطقة من العالم.
الصورة الشائعة تقول : إن الصراع في دارفور هو صراع عرقي بين القبائل العربية والقبائل الافريقية : وإن القبائل العربية تمارس ابادة جماعية أو تطهيراً عرقياً ضد القبائل الافريقية : وإن هناك حملات منظمة للاغتصاب الجماعي للنساء على مرأى من الرجال «!» وإن الحكومة السودانية ضالعة في ارتكاب هذه الجرائم ، أو التستر عليها بغض الطرف عنها لأن الذين يرتكبونها هم فرق من ميليشيات الجنجويد الذين تسلحهم الحكومة ، وهم ينتمون إلى القبائل العربية وإن ضحايا هذا الصراع المسلح جاوزوا الخمسين الف قتيل وملايين اللاجئين والنازحين والمشردين «لكل لفظ مدلوله الإنساني» فأصبحنا أمام أسوأ كارثة إنسانية في التاريخ «!».
الإعلام الغربي يسوق هذه الصورة والإعلام العربي ، القابع في جُحر الضب ، يروجها مجاناً ، ومجلس الأمن اتخذ حتى الآن «سبتمبر 2004م» قرارين ضد السودان وقد يكون القرار الثالث في الطريق !
والناس الذين ليس لديهم مصدر آخر للمعرفة يصدقون هذه الصورة الشائعة أو يقفون أمامها حائرين لا يملكون تصديقاً ولا تكذيباً.
ولايستطيع المرء أن يقف على حقائق الحال في دارفور دون أن يتعرف على تكوينها السكاني ، وموقعها الجغرافي وتاريخها الثقافي والثروات التي تختزنها أرضها وعلاقتها الحالية والتاريخية بالمركز «الخرطوم حكومة السودان» ، والقوى التي تغذي الصراع الدائر على أرضها وتلك التي تظن أنها قد تستفيد منه.
وهذا الحديث بتفصيلاته وأسانيدها ، لايحتمله المقام هنا.
لكن الإجمال قد يكفي لايقاف القارئ على حقيقة الواقع التي تخالف كل المخالفة الصورة الشائعة التي يتلقاها الناس في بلادنا بين مصدق وحائر.
دارفور وسكانها
دارفور جغرافياً هي غرب السودان ، لها حدود مع ليبيا «في الشمال الغربي» ومع تشاد «في الغرب» ومع افريقيا الوسطى «في الجنوب» .
وطبيعتها متنوعة تنوع أهلها ففيها صحاري واسعة ، وجبال ووديان وانهار صغيرة وأراضٍ صخرية ورملية وطينية ، وفيها منطقة جبل مرة التي تتمتع بمناخ البحر الأبيض المتوسط «!» ويصف أهلها بلادهم بأنها «أرض بكرومية شبر» ! وهي غنية بينابيع المياه الطبيعية ، وبساتينها تنتج أجمل ثمار بلدان البحر الأبيض المتوسط «ولم ينزح من سكانها أحد».
مساحة دارفور «807،547كم2 أي إنها نحو نصف مساحة مصر ، وأكبر من مساحة فرنسا ، وهي خمس مساحة السودان أو أكثر قليلاً ، وثمانون في المائة من هذه المساحة صالحة للزراعة فوراً «وهي نحو 000،500،43 فدان بكراً لا تحتاج إلى استصلاح» !.
سكانها عددهم أقل من ستة ملايين نسمة.
ثرواتها الطبيعية هي الحديد «نقاوته من 80 90%» والنحاس «بها منطقة تسمى حفرة النحاس لايحتاج نحاسها عالي النقاء إلى تعدين لوجوده فوق سطح الأرض !» والبترول «هي المربع رقم 12 في تقسيم النفط السوداني وحقولها متاخمة لحقول تشاد الغنية واليورانيوم ، والجير ، والصودا وهذه الأخيرة كلها في شمال دارفور».
ثروتها من الإبل والماشية «الأبقار» نحو 88 مليون رأس أما الأغنام فلا تكاد تحصى «في أحداث محلية كتم وحدها كانت الخسائر من الأغنام 734،239،2» وفي تقدير حكومي لثروة دارفور من الأغنام جاء أنها 610،987،28 رؤوس من الضأن والمعز ، وهو تقدير تقريبي على كل حال.
ويتوزع أهالي دارفور على 180 قبيلة منها 30 قبيلة كبيرة والباقي قبائل متوسطة أو صغيرة ، والجميع يتكلمون اللغة العربية ويفخرون بفصاحة السنتهم وبلاغتهم ، وبعض القبائل ذات الأصول الافريقية ليس لها لغة غير العربية والقبائل التي لها لغة تتكلم بها فيما بينها كما لو كانت لهجة محلية لا لغة بالمعنى الكامل للغة.
ووصف القبائل بأنها «عربية» أو «افريقية» ليس وصفاً دالاً على نقاء عرقي أو صفاء وراثي لكل جنس من الجنسين : العرب والأفارقة ، وإنما هو وصف أغلبي يرجع إلى الأصول التي تنتمي إليها القبيلة ، أو إلى وجود لغة محلية خاصة بها حافظت على بعض خصائص ومفردات لغتها الأصلية قبل تحولها إلى اللغة العربية ، ذلك أن القبائل قد امتزجت على مر التاريخ امتزاجاً لم يعد أحد معه يستطيع التفرقة بين العربي والإفريقي من أهل تلك البلاد ولذلك سماها الرحالة محمد بن عمر التونسي «ت 1857 في القاهرة» بلاد «العرب والسودان» لاختلاطهما معاً اختطلاطاً جعلهما شعباً واحداً «تشحيذ الأذهان بسيرة بلاد العرب والسودان الهيئة العامة للكتاب ، القاهرة 1965م بتحقيق خليل عساكر ومصطفى سعد».
وقد زار العلامة الأستاذ إحسان عباس رحمه الله دارفور في إحدى زياراته للسودان ، فسمع امرأة من قبيلة الزغاوة تقول لابنتها «أسرعي هذي المزنة أن هطلت سيرنا يتعطل» فقال احسان عباس لمرافقيه : هذه المرأة الزغاوية افصح من أهل الخرطوم !.
والعرب لاينظرون إلى العروبة على أنها عرق أو جنس ، لكنهم يرون أن العروبة لسان فمن تكلم العربية فهو عربي ،ومع أن المحدثين والفقهاء يضعفون الحديث المروى في هذا الخصوص فإنهم يقولون :«إن معناه ليس ببعيد ، بل هو صحيح من بعض الوجوه» «ابن تيمية اقتضاء الصراط المستقيم ط 1 محمد حامد الفقي ، القاهرة ، 1950 ص 169» وابن تيمية نفسه يقرر أن «العرب» اسم لاقوام منهم «ما غلب على أهله لسان العرب مع ما دخل لسان العرب من اللحن ، وإن كان لهم لسان غيره» ص166، وهذا هو حال سكان دارفور فالعربية لسانهم كافة وأن كان بعضهم يعرف غير لسان العرب ، ولست بذلك أنفي عن ذوي الأصول الافريقية أصولهم الثابتة لهم ، وإنما اقرر أن العروبة وسعتهم كما وسعت سواهم من أهل الأمصار التي تعربت بعد أن لم تكن عربية ولا كان أهلها عرباً ، وهي التي يسميها ابن تيمية «البقاع العربية انتقالاً» أي التي انتقلت إلى العربية ويدخل فيها مصر والشام والعراق والاندلس وأرض فارس وخراسان قديماً ، والناس في كل تلك البلاد فيهم من لايزال يحتفظ بنسبة الضارب في القدم إلى آباء أو قبائل وجدوا ووجدت قبل أن تعرف العربية طريقها إلى ديارهم ولا ينفي هذا الانتساب عروبتهم لا يقدح فيها.
ومن طرائف التركيب السكاني لدارفور أن «الزغاوة» التي هي أكبر القبائل الأفريقية بعد الفور قد وفدت اصلاً من ليبيا ، وأدى اختلاط العرب والوافدين بالافارقة أهل البلاد الأصليين إلى ظهور طبقة «الكنجارا» التي حكمت دارفور« سلطنة الفور» منذ القرن السابع عشر حتى نهاية حكم السلطان علي دينار في نوفمبر سنة 1916م.
وأهل دارفور كلهم مسلمون وتاريخ الإسلام في بلادهم يبدأ من القرن الثالث عشر الميلادي أو قبله ، وكلهم يتبعون المذهب المالكي ، وكلهم يقرأون القرآن الكريم بقراءة «ورش» وكلهم ينتمون إلى الطريقة الصوفية التيجانية ، ولفظ كلهم في الجمل السابقة حقيقي لا مجازي «!» ولذلك فالوحدة السكانية في دارفور أعلى منها في أماكن أخرى كثيرة من السودان ، بل من العالم العربي والإسلامي قاطبة.
ولايستطيع أحد أن يفرق بين ذي الأصل العربي وذي الأصل الافريقي من أهل دارفور بالنظر إلى الملامح أو الصفات الجسمية ، وعندما كرر كولن باول وزير الخارجية الامريكي الكلام عن الصراع العرقي في زيارته لدارفور ، طلب منه الوالي أن يتعرف على من هو عربي ومن هو افريقي فأخطأ في تحديد هوية كل من حاول التعرف على اصله القبلي : من ظنه منهم عربياً تبين أنه افريقي ومن ظنه افريقياً تبين أنه عربي «!» وأبدى كثير من الأجانب الذين زاروا دارفور تعجبهم من أن اللغة العربية هي لغة الجميع وأن الفارق الوحيد بين العربي وغير العربي هو ما يقوله كل منهم عن انتمائه القبلي !
يحق للقارئ بعد أن وقف على الحقائق التي اسلفت بيانها عن المكان والإنسان واللغة والدين في دارفور أن يتساءل مع أمير الشعراء :
إلام الخلف بينكم إلام ؟
وهذى الضجة الكبرى علام ؟!
وهو السؤال عن الأزمة الحالية : ما حقيقة اسبابها وما الواقع فيها ؟
سكان دارفور ينقسمون إلى مزارعين ورعاة ، رعاة يرعون الإبل «الأباله» أو يرعون البقر «البقارة» والجميع يمتلكون مع الإبل والبقر كميات هائلة من الأغنام .
والرعي يقتضي التنقل وراء العشب والكلأ والماء ، ورحلة الرعاة تتجه عادة من الشمال إلى الجنوب ثم تعود من الجنوب إلى الشمال سالكة طرقاً قديمة محددة منذ عهد حكومات السلاطين الذي انتهى سنة 1916 تسمى «المراحيل» ومفردها «مرحال» وهو طريق يتسع بعرض من 10 إلى 15 كم ويضيق في بعض المواضع حتى يبلغ عدة مئات من الأمتار ، وعلى مسافات متفاوته توجد في كل مرحال أماكن واسعة «ميادين» لراحة الرعاة وإبلهم أو ابقارهم «يسمون الواحد منها صينية ويجمعونها على صواني» وعلى جانبي كل مرحال توجد أراضي المزارعين ، وقريب منها قراهم وبيوتهم.
وفي أحوال سخاء الماء لم تكن تجري أية مشكلة بسبب المرعى أو النزول للراحة في اثنائه في الصواني المخصصة لذلك ، ولكن الجفاف الذي اصاب افريقيا ، وخص السودان بنصيب كبير منه ، منذ أواسط السبعينيات حتى أواسط الثمانينيات أدى إلى أن تبدأ رحلات الرعاة من الشمال إلى الجنوب مبكرة عن مواعيدها المعتادة ، وقل العشب في الأرض «أرض المرحال» فأكلت الإبل والابقار زروع المزارعين في بعض الأراضي ، وأراد المزارعون الانتقام فحرقوا ما في الأرض من عشب وكلأ نكاية في الرعاة وماشيتهم ، أو وسعوا نطاق زراعاتهم أو الأراضي المحجوزة للزراعة اقتطاعاً من أرض المراحيل ، وتوالى الفعل ورد الفعل حتى ترتب على ذلك نزاعات كثيرة وقع فيهغا قتلى من العرب والأفارقة وعقدت الحكومة لتسويتها نحو «15» مؤتمراً للصلح بين المتنازعين انتهت كلها بتسوية النزاع وسداد ديات القتلى وفي سنة 2001م وقع نزاع بين قبيلة الزغاوة «الافريقية» وقبيلة ابناء زيد «العربية» قتل فيه من الزغاوة 76 رجلاً ، واتفق على الصلح وحددت قيم الديات ، لكنها لم تدفع في المواعيد المحددة لذلك وكان المتفق عليه أن تدفعها الحكومة السودانية فلم يرض ذلك شباب الزغاوة واعتقلوا زعماءهم الذين عقدوا الصلح وبدأ التمرد ، واعقب ذلك حادثة قتل فيها بعض العرب في منطقة جبال مرة فنشب صراع مسلح بين العرب والفور في تلك المنطقة.. وهكذا توالت النزاعات المسلحة التي سببها اصلاً الخلاف على الماء والعشب.
وللأرض دور في النزاع بين القبائل الافريقية بعضها وبعض فالأرض في دارفور مقسمة بأوامر سلطانية «من عهد السلطنات الإسلامية» وموزعة على القبائل لكل قبيلة «حاكورة» أي أرض خاصة بها لايشاركها فيها سواها ، فلما ضرب الجفاف افريقيا نزحت قبائل من تشاد وافريقيا الوسطى إلى دارفور «حيث ابناء عمومتهم من القبيلة نفسها : فالزغاوة مثلاً ثلثهم في دارفور وثلثاهم في تشاد» وكان طبيعياً أن يقبل أهل البلاد أصحاب الحاكورات هؤلاء الوافدين ضيوفاً مؤقتين فلما طالت سنوات الجفاف وتحولت الضيافة إلى إقامة آثار ذلك منازعات بين الطرفين وقع فيها قتلى ونشأت بسببها ثارات !
والرعى والزراعة يتقاسمهما العرب والأفارقة ، فاغلبية العرب رعاة ومنهم مزارعون واغلب الأفارقة مزارعون ومنهم رعاة وللمزارعين ديارهم وحواكيرهم وللرعاة ديارهم وحواكيرهم كذلك.
لذلك تداخلت القبلية مع الصراع الرعوي الزراعي وتسبب تقصير الحكومة في تنامي حركة الرفض التي استغلتها حركتا التمرد المسلح الرئيسيان «حركة العدل والمساواة» و«حركة تحرير السودان» الأولى زعامتها لبعض عناصر حزب المؤتمرالشعبي «على رأسهم خليل ابراهيم الذي كان وزيراً في حكومة الانقاذ!» والثانية زعامتها لبعض اليساريين «على رأسهم أحمد ابراهيم علي دريج ، واسم دريج ليس عربياً ولا افريقياً ولكنه اسم مفتش في الجيش البريطاني كان يعمل في «زالنجيا» وهي قرية أحمد ابراهيم علي فلما ولد أحمد اعطاه ابوه اسم هذا المفتش الانجليزي ، وقد حدثني بذلك المؤرخ الثقة مولانا جبريل عبدالله علي في اثناء زيارتنا لمعسكر ابو شوك ظهر يوم الاثنين 6/9/2004م .
وهذه الحركة «حركة تحرير السودان» هي محاولة لبعث الصلة التي أراد جون جارانج انشاءها بين حركته «جيش تحرير السودان» وبين دارفور عندما بعث قوة من نحو ستة الآف جندي بقيادة داوود يحيى بولاد «من قبيلة الفوروكان أحد المنتمين للحركة الإسلامية وانضم إلى الفريق الذي كون حزب المؤتمر الشعبي بعد خلاف الدكتور حسن الترابي مع الحكومة» فأبيد هذا الجيش عن آخره لأن أهل دارفور ابوا أن يدخل عليهم جيش فاتح من الجنوب مراهناً على خلافاتهم حول المرعى والماء ليوقع بينهم وبين اخوانهم الحاكمين في الخرطوم ، وقاتل ضد هذا الجيش قبيلة قائده نفسها «قبيلة الفور» وسائر القبائل الافريقية الأصل كازغاوة والمساليت وغيرها «حسن مكي ، دارفور .. من اشعل الحريق ؟ وجهات نظر ، العدد 68 ، سبتمبر 2004م ص16».
وقيام الحركات المسلحة كان يسيراً ، وكذلك تسليح الأفراد ، وأهل المنطقة من قديم يعتبرون السلاح ضرورة ، لكنه كان السلاح التقليدي من مثل السيف والرمح والحرية وما إليها فلما كثرت النزاعات المسلحة في دول الجوار ، وتوالت الانقلابات العسكرية ما نجح منها وما اخفق في تشاد وافريقيا الوسطى كانت دارفور هي ملجأ الفارين من أولئك الانقلابيين وكان أكثرهم يبيع السلاح باثمان رخيصة حتى أصبح المثل السائر بين أهل دارفور «بندقية بجلابية» والسلاح هندما يفشو في ايدي الناس يسهل استعماله ، ويتقوى به حاملوه على غيرهم ، وهؤلاء يحتاجون للدفاع عن أنفسهم إلى سلاح يواجهه وهكذا تتسع الحلقة الشيطانية وينشأ العنف والعنف المضاد له... وكان واجباً على الحكومة السودانية أن تنتبه لهذه المخاطر منذ بدايتها ، لكنها لم تفعل بل إنها لم تتدخل لحفظ الأمن إلا في 24 ديسمبر 2003م واستطاعت بنهاية يناير 2004م أن تقضي على التمرد المسلح وتستعيد سيطرتها على المدن التي كانت في يد الحركتين المسلحتين ، وفي اثناء هذه المحاولة لاستعادة سلطة الدولة حدث حرق القرى وحدثت المصادمات العسكرية التي كان ضحاياها من غير المقاتلين «!» وحدثت المأساة الإنسانية الحالية التي هي أكبر بكثير من مشكلة القتلى من الفرقاء جميعاً فعدد القتلى منذ عام 2000م حتى الآن لم يتجاوز خمسة الآف قتيل بينما عدد اللاجئين والنازحين والمشردين في السودان وخارجه يبلغ نحو مليون ومائة الف شخص منهم 250 الفاً في تشاد ، والباقون داخل ولايات دارفور الثلاث وهم موزعون على نحو عشرين مخيماً أكثرها كثافة ماتديره الحكومة السودانية ، وهذه الحقيقة وحدها ترد على المزاعم القائلة أن القوات الحكومية ، والموالية لها ، هي التي ارتكبت مجازر ضد السكان واحرقت قراهم ، إذ لو كان الأمر كذلك ما لجأ إلى مخيمات الحكومة أحد.
الماء والعشب والكلأ والأرض هي إذن اصل النزاعات التي تحولت إلى حروب ، والمنافسة السياسية الإسلامية الإسلامية ، والجنوبية الشمالية من ناحية والثروات المغرية بالتدخل الأجنبي من ناحية أخرى هل العوامل المساعدة علاى استمرار النزاع ، واطالة امده والتشجيع على حمل السلاح وتيسره لمن أراد فإين التطهير العرقي ،والابادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية من ذلك كله ؟
التطهير العرقي جريمة تفترض أن قوماً ينتسبون إلى أصل واحد ، حقيقي أو مزعوم يسعون إلى ابادة قوم آخرين .
وليس في دارفور بل ربما ليس في السودان كله مكن يزعم أنه من عرق متفرد نفى لم يختلط بغيره من الأعراق والأصول ، إن قادة الجماعات المسلحة أنفسهم من أصول يختلط فيها العربي بالإفريقي وبعضهم وهو من أصل إفريقي «مثل خليل ابراهيم رئيس حركة العدل والمساواة» زوجته عربية ، والعكس صحيح.
والقتلى الذين يصلون إلى نحو خمسة الآف أو أقل قليلاً هم من القبائل كافة العربية والإفريقية سواء بسواء ، واللاجئون والنازحون والمشردون تتوزعهم القبائل العربية والإفريقية بلا تمييز .
والقرى التي احرقت والأموال التي اتلفت يملكها عرب وافارقه فالنار حين تسرى في الأرض لاتميز بين بيت عربي وبيت افريقي ولا بين غنم أو ابل أصل صاحبها من العرب وأخرى أصل صاحبها من الأفارقة.
والمضرور الأكبر كان نفوذ الحكومة السودانية وسلطانها وهيبتها : فقد دمر أكثر من ثمانين مركزاً للشرطة وذبح من كان فيها من ضباط وجنود وهوجم مطار الفاشر واحرقت فيه سبع طائرات عسكرية وذبح في هذا الهجوم أكثر من سبعين جندي وضابط واسر قائد الطيران السوداني الذي تصادف وجوده في مطار الفاشر ، ودمرت مباني المحاكم والمدارس والمستشفيات .. فهل كان من فعلوا ذلك يمارسون تطهيراً عرقياً ضد الحكومة؟!.
إن التطهير العرقي الذي تتحدث عنه وسائل الإعلام الغربية والصهيونية ليس إلا اكذوبة كبرى لا أصل لها في الحالة السودانية ابتداءً إذ ليس هناك عرق ضد عرق ، وإنما هناك نزاع على الماء والأرض والعشب ، وغياب حكورمي طال امده ، وإهمال للتنمية مكافئ لاهمال سائر المناطق في السودان ، وإن شئت قلت في افريقيا وآسيا أيضاً ، استغلته عناصر ثائرة عليه ، وعلى طول أمده ، وحاولت ولاتزال تحاول استثماره القوى السياسية الطامعة في السيطرة على السودان كله وثرواته جميعاً ، من الداخل والخارج ، أحدهما يعضد الآخر ، وعين كل منهما على مصالحه الحقيقية أو المتوهمة ، وأذنه تصغى لوعود وعهود أكثرها لن يصدق حين تحين ساعة اقتسام الغنيمة التي يستأثر بها ، بعد كل صراع ، الأقوى وحده دون سواه.
والإبادة الجماعية تهمة أو هي من تهمة التطهير العرقي ، وهو أمر تثبته أعداد القتلى من أهل دارفور ، فليس هناك أغلبية ولا أقلية فيمن لقوا مصرعهم في أثناء النزاعات المسلحة هناك ، وليس هناك قتل على الهوية كما حدث في حروب أهلية افريقية وعربية معاصرة ، وليس هناك فريق بيده السلاح وفريق أعزل وما يسمى بالميليشيات المسلحة موجود لدى كل القبائل ، فالفور مسلحوهم يطلق عليهم اسم «تورابورا» لانهم يتحصنون في منطقة جبل مرة وهي سلسلة جبال متفاوته ارتفاعاً ووعورة فشبههم أهل دارفور بمقاتلى جبال تورابورا الافغانية «!» والزغاوة والمساليت المقيمون في منطقة الكابكابية اسفل جبل مرة ، مسلحوهم يطلق عليهم اسم «البشمركة» وهو اسم الفدائيين الأكراد في العراق «!» وهؤلاء المسلحون كان توجهعهم الأصلي إلى حماية ديارهم وقراهم والانتقام ممن بدأوا الاعتداء عليهم ، فليس هناك إبادة منظمة لأحد حتى يقال أن الذي يجري في دارفور يصل إلى حد الإبادة الجماعية التي تزعم وجود أدلة عليها «لم تقدم دليلاً واحداً منها» الولايات المتحدة الأمريكية ومنظمة العفو الدولية ، ومنظمة هيومان رايتس واتش وغيرها من المنظمات والجهات الإعلامية الغربية.
لعل كلمة الجنجويد التي دخلت كل لغات العالم بعد أزمة دارفور هي أخطر الكلمات تأثيراً في نفوس السامعين والمشاهدين والقراء لأي خبر عن دارفور والسودان منذ سنة 2003م حتى اليوم فما معنى هذه الكلمة ؟ ومن هم الجنجويد اساساً ؟.
الجنجويد كلمة مركبة من كلمتى «جن» و«جواد» وهي كلمة افريقية وفدت من لغات غرب افريقيا المحلية إلى لغة أهل دارفور العربية بمعنى جن يركب جواداً ، وتطور معناها بعد الصراع المسلح في دارفور ليتضمن حمل راكب الجواد سلاحاً آلياً لأنه في الماضي كان يحمل سيفاً أو رمحاً أو حربة.
وهذا الجن راكب الجواد هو لص يتكسب عيشه من قطع الطريق على المسافرين وقوافل التجار ، وهو قد يكون عربياً وقد يكون افريقياً إذ لا يخلو قوم من اللصوص ولاتخلو بادية من قطاع طريق ، وهؤلاء لايسير الواحد منهم عادة وحده لكنهم يكونون في رفقة يسطون على القوافل أو المسافرين أو أهل القرى ويتسمون المال المسروق معاً ، وقد يكون لهم قائد أو زعيم «هو الذي نسميه في اللغة العامية المصرية شيخ منسر» وقد يختلفون بعد الغنيمة أو الهزيمة فيقتتلون أو يتفرقون وهم اشبه ما يكنون بعاليك العرب في الجاهلية الذين كانوا يطردون من قبائلهم أو يهجرونها فيتخذون النهب وسيلة للعيش.
ففي العرب جنجويد وفي الأفارقة جنجويد ، وجماعاتهم قد يختلط فيها العرب بالأفارقة لأن الذي يجمعهم ليس العرق أو الانتماء القبلي وإنما السطو والنهب واستقواء بعضهم ببعض دون نظر إلى نسب أو أصل أو قرابة.
وعندما زارت بعثة رؤساء منظمات الأمم المتحدة دارفور وتحدث أحد الأجانب هناك عن الجنجويد وأن خطورتهم كبيرة لأنهم يركبون جواداً أو جملاً ويحملون سلاحاً آلياً ، سأله رئيس إحدى المنظمات عن المسلحين الآخرين ماذا يركبون ؟ فقال له إنهم يركبون سيارات جيب GMC ويضعون عليها مدافعهم وسلاحهم.
ولاشك أن النهب يكثر في أوقات الصراع المسلح ، وفي غيبة السلطة القوية المسيطرة ومن هنا كان نشاط الجنجويد ملحوظاً في السنين الثلاث الأخيرة في دارفور ، لكنهم من ناحية أخرى ساهموا في منع حملة السلاح من المنتمين إلى الحركتين السياسيتين في حالات كثيرة من دخول القرى وترويع أهلها لحملهم على اللجوء أو النزوح طلباً لاتساع نطاق المأساة الإنسانية لحمل المجتمع الدولي والولايات المتحدة خاصة على تدخل عسكري في السودان تظنه هاتان الحركتان سيكون محققاً لمصالحهما أو لمطامعهما !.
ولم يستطع وفد الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين أن يقف على دليل أو شبهة دليل على أن الحكومة السودانية سلحت الجنجويد أو استعانت بهم في حربها ضد الحركتين السياسيتين المسلحتين في دارفور ، لكن الحكومة استنفرت «عبات» المتطوعين من الجيش الشعبي واستجاب لهذه التعبئة اعداد كبيرة من شباب القبائل العربية والافريقية معاً في ولايات دارفور الثلاث ، وهذه هي القوة التي ساعدت الجيش النظامي في استرداد سيطرة الدولة على مدن دارفور ما بين 24 سبتمبر 2003م ونهاية يناير 2004م وقد سرح 80% من هؤلاء واستردت القوات النظامية ماكان بأيديهم من سلاح ، وأنضم الباقون إلى القوات النظامية لحفظ الأمن في مختلف أنحاء دارفور .
فلا الجنجويد جماعة مسلحة منظمة ذات قيادة ، ولا الحكومة سلحتهم واستعانت بهم ضد الأفارقة ، وإنما هي كلمة ذات وقع خاص استعملت لتأكيد مزاعم ضلوع الحكومة في التطهير العرقي والإبادة الجماعية اللذين لم يقعا اصلاً .
هل عانت نساء دارفور من اغتصاب جماعي ؟
تلك كانت التهمة الثالثة التي أريد من اشاعتها تسويغ التدخل الدولي العسكري في السودان بزعم حماية نساء دارفور من قوات الحكومة.
سألنا أول من قابلناه في الخرطوم عن هذه التهمة فنفاها نفياً قاطعاً ، وقال إنها شائعات تروجها جهات معادية للحكومة السودانية ، وللصورة العربية للسودان الافريقي ، وإنها ليس لها في الواقع أصل البتة ، وإنها تنافي اخلاق أهل دارفور وأهل السودان عامة.
وتكرر النفي من الجميع ، الحكومة والمعارضة إلا رجلين اثنين رددا أمام وفد اتحاد العلماء ما كنا قرأناه وسمعناه عن الاغتصاب الجماعي والاغتصاب الذي أدى إلى حمل اربعمائة امرأة دارفورية نقلتهم الطائرات العسكرية إلى الخرطون ليضعه فيها حملهن «!».
عندما ذهبنا إلى دارفور سألت الشرتاى «لقب قبلي قديم يعني في العرف الحالي نائب رئيس القبيلة وكان في أصله ، كما قال أبن عمر التونسي ، يعني ملكاً على مملكة صغيرة تتبع نائب السلطان في أرض الزغاوة» ابراهيم عبدالله نائب وإلى شمال دارفور عن مسألة الاغتصاب فتأفف من السؤال فلما الححت عليه قال لي : هل تقولون أن أهل دارفور زنوا بنسائها ؟ واستعاذ بالله من أن يكون ذلك قد حدث على أية صورة من الصور ونفاه نفياً قاطعاً.
في معسكر ابو شوك للنازحين سمعغت النفي نفسه من العاملات في المعسكر وبعض المقيمات فيه ممن يشرفن على خيام التعليم «150 خيمة كل خيمة هي فصل دراسي لسن متقارب».
في لقاء على الغداء بدار الوالي لقيت رئيس المحكمة الجنائية العامة «محكمة جنايات شمال دارفور» الاستاذ صلاح الدين سر الختم علي ، وبحكم الصلة المهنية سألته عن جرائم الاغتصاب فقال لي إنه لم يبلغ إلا عن جريمتين فقط وقعتا منذ بدء الأحداث في يونيو 2003م حتى الآن ، الأولى ارتكبها مراهقان «19 ،18 سنة» والمجني عليها فتاة سنها نحو 14 سنة وقد قدم الفتيان للمحاكمة وطبق القانون عليهما ، ولم يكن لديه معلومات تفصيلية عن هذه الواقعة لأنها لم تكن في نطاق اختصاص محكمته ، والثانية هي القضية رقم 2346 لسنة 2004م واحداثها ضبطت في 9/8/2004م في القسم الأوسط من مدينة الفاشر ، والمتهمون فيها ثلاث نسوة واربعة رجال اعترفوا أمام القاضي نفسه بأنهم استئجروا من قبل إحدى الحركتين المسلحتين لتصوير فيلم جنسي يبدو الرجال فيه مرتدين زياً عسكرياً وكأنهم يغتصبون النساء لكي يسرب الفيلم إلى خارج السودان لتأييد المزاعم القائلة أن القوات النظامية الحكومية تمارس اغتصاباً جماعياً ، ودفع المحرضون لكل واحد من الجناة السبعة نصف مليون دينار سوداني «= 200 دولار امريكي !» وقد جرت هذه الواقعة في مدينة مليط التي تقع على بعد 45 كم شمال مدينة الفاشر ، وقد كتب لي القاضي صلاح الدين سر الختم بيانات الدعوى واسماء المتهمين فيها وخلاصة اعترافاتهم فيها بخط يده واحتفظت بها لدي ودونت منها ماذكرته آنفاً.
تهاوت بذلك قصة الاغتصاب ، وأن بقى في النفس شيء يتعلق بما قاله الرجلان الوحيدان اللذان تحدثا عنه من خجل النساء من ذكر مثل تلك الوقائع ، فلما لقيت الأستاذ دفع الله الحاج يوسف ، الذي تفضلب فزار وفد اتحاد العلماء في مكان إقامته بفندق هيلتون سألته وهو القاضي العادل عن قضية الاغتصاب فاخبرني أنه بصفته رئىس لجنة تقصي الحقائق التي شكلتها الحكومة بمقتضي قانون لجان التحقيق لسنة 1954م حاول الوقوف على حقيقة هذه التهمة فانتدب لذلك لجنة نسائية ترأسها قاضية في المحكمة العليا ، وتضم طبيبة وضابطة شرطة ومستشارة اجتماعية وزارت هذه اللجنة ولايات دارفور الثلاث وجميع معسكرات النازحين واللاجئين في جميع الانحاء ، واستمعت إلى مندوبي لجان الاغاثة دون حضور مندوب للحكومة ، فلم تجد اللجنة أي قرينة فضلاً عن دليل على وقوع أي حالة اغتصاب فردي أو جماعي ، وقد عرضت اللجنة على مندوبي المنظمات الاغاثية ومن سألتهم من النساء أن يدلوا بشهاداتهم مقرونة باليمين فلم يقدم على ذلك أحد منهم.
في الليلة نفسها التي حدثنا فيها رئيس القضاء الأسبق دفع الله الحاج يوسف ، بهذا الحديث سألت أحد السياسيين السودانيين الحكماء عن مسألة حمل 400 امرأة ونقلهن إلى الخرطوم لوضع اطفالهن فقال لي : إن الأحداث كلها بدأت في فبراير 2004م بعد نجاح الحكومة على السيطرة على جميع مدن ولايات دارفور في نهاية يناير ، فهل حملت جميع هؤلاء النسوة في وقت واحد ، وكلهن جاء حملهن مكتملاً بعد ادنى مدة الحمل «6 اشهر» ؟! واردف قائلاً :
في مصر عندكم مثل يقول «إن كان المتكلم مجنوناً الا يكون المستمع عاقلاً »؟! قلت له : صدقت هذه فاتتني ! .
الجرائم الثلاث المنسوبة إلى المقاتلين الموالين لحكومة السودان هي في واقع الأمر افتراءات محضة لايقوم على واحدة منها دليل ، وقد جاء في تقرير بعثة منظمة المؤتمر الإسلامي التي شكلها الأمين العام للمنظمة بناء على طلب السيد كوفي أنان الأمين العام للأمم المتحدة مانصه : «ولم تجد البعثة أي دليل على وجود أسوأ وضع إنساني في العالم ، أو أي وجه للمقارنة مهما كان مع الإبادة والتطهير العرقي ».
وقال وفد الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين في بيانه الصادر بعد زيارته لدارفور «... نشرت اخبار عن التطهير العرقي ، والإبادة الجماعية ، والاغتصاب الجماعي تبين الوفد أنها عارية عن الصحة».
ومع ذلك فإن إعلامنا العربي لايزال يردد ما تقوله وسائل الإعلام الأجنبية ، وتردده الدول الطامعة في ثروات السودان الهائلة التي يسؤوها أن تقوم فيه حكومة مركزية قوية أو يتماسك نسيجه الاجتماعي بحيث يقوى على مقاومة الضغوط أو رد الاعتداءات .
هل دارفور لها قيمة ثقافية ؟
عن طريق دارفور دخل الإسلام معظم بلدان غرب افريقيا ، ولم تزل دارفور منذ عمها الإسلام تعرف بدارفور القرآن لكثرة مافيها من حفاظ القرآن الكريم وقرائه ، وفي دارفور أكثر من 2800 خلوة لتعليم القرآن «الخلوة = الكتاب» واللغة العربية هي اللغة الأصلية في دارفور لابنائها كافة ، وقد لاحظ بعض من زاروها أن ابناء القبائل الافريقية يحرصون على البراعة في تعلم العربية والكتابة بها تقديراً منهم لصلتها بالقرآن الكريم والسنة النبوية ، وقد قال لنا أحد ابناء دارفور الذين قابلناهم في الخرطوم أن جميع مساجد العاصمة السودانية فيها إمام أو مؤذن أو خادم من أهل دارفور فهؤلاء هم الذين يحافظون على الثقافة العربية القرآنية ليس في السودان فحسب بل في افريقيا جنوب الصحراء كلها.
والوشائج الثقافية بين مصر ودارفور بالغة القوة ، فقد كان في الأزهر رواق خاص لأبناء دارفور ، وقد حدثنا الدكتور علي حسن تاج الدين مستشار الرئيس السوداني للشئون الإفريقية «وهو من قبيلة المساليت الدارفورية» بأنه التحق بهذا الرواق سنة 1953م ، وكان رقم بطاقته فيه 832 ومنذ ايام السلطنة الإسلامية في دارفور كانت هناك رحلة سنوية من دارفور إلى الحرمين الشريفين «مكة والمدينة» تحمل فيها صرة من النقود ، ومحمل يسهم في كسوة الكعبة المشرفة حيث كان ريش االنعام وسن الفيل والصمغ ، وغيرها من خيرات دارفور ، تحمل إلى مصر كل عام فتباع ويكمل بثمنها المال المحمول إلى الحرمين ، ويخرج وفد دارفور مع الركب المصري عبر البحر الأحمر إلى الحج، ولآخر سلاطين الفور السلطان على دينار أوقاف بارض الحرمين معروفة إلى الآن أشهرها «ابيار علي» عند ذي الحليفة علي طريق الخارج من المدينة إلى مكة ، وهي ميقات أهل المدينة الذي يحرمونه منه بالحج والعمرة.
هذا العمق الثقافي الإسلامي العربي بدارفور يضيف إلى مطامع القوى الدولية الطامعة فيها مطمعاً خاصاً بحصار القلب الإسلامي بتمزيق أوصال اطرافه القريبة بعد أن عزلوه عزلة شبه تامة عن اطرافه البعيدة.
باختصار وتصرف عن وجهات نظر


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.