رئيس برلمانية الإصلاح يتلقى العزاء في وفاة والده من قيادات الدولة والأحزاب والشخصيات    ذكرى إعلان فك الارتباط.. جدار جنوبي راسخ لفظ الوحدة المشؤومة    خاصموا الانتقالي بود وأختلفوا معه بشرف    شراكة الانتقالي وتفاقم الازمات الاقتصادية في الجنوب    أين نصيب عدن من 48 مليار دولار قيمة انتاج الملح في العالم    هل يمكن لبن مبارك ان يحدث انفراجة بملف الكهرباء بعدن؟!    قاتلكم الله 7 ترليون في الكهرباء فقط يا "مفترين"    مظاهرة حاشدة في حضرموت تطالب بالإفراج عن السياسي محمد قحطان    "ضربة قوية لمنتخب الأرجنتين... استبعاد ديبالا عن كوبا أميركا"    يوفنتوس يعود من بعيد ويتعادل بثلاثية امام بولونيا    فيديو فاضح لممثلة سورية يشغل مواقع التواصل.. ومحاميها يكشف الحقيقة    شاهد :صور اليوتيوبر "جو حطاب" في حضرموت تشعل مواقع التواصل الاجتماعي    شاهد : العجوز اليمنية التي دعوتها تحققت بسقوط طائرة رئيس إيران    لليوم الثالث...الحوثيون يفرضون حصاراً خانقاً على مديرية الخَلَق في الجوف    صراعات داخل مليشيا الحوثي: قنبلة موقوتة على وشك الانفجار    ناشطون يطالبون الجهات المعنية بضبط شاب اعتدى على فتاة امام الناس    "يقظة أمن عدن تُفشل مخططًا إجراميًا... القبض على ثلاثه متهمين قاموا بهذا الأمر الخطير    اللجنة الوطنية للمرأة تناقش أهمية التمكين والمشاركة السياسة للنساء مميز    رئيس الوفد الحكومي: لدينا توجيهات بعدم التعاطي مع الحوثيين إلا بالوصول إلى اتفاقية حول قحطان    وهم القوة وسراب البقاء    "وثيقة" تكشف عن استخدام مركز الاورام جهاز المعجل الخطي فى المعالجة الإشعاعية بشكل مخالف وتحذر من تاثير ذلك على المرضى    مجلس النواب يجمد مناقشة تقرير المبيدات بعد كلمة المشاط ولقائه بقيادة وزارة الزراعة ولجنة المبيدات    ثلاث مرات في 24 ساعة: كابلات ضوئية تقطع الإنترنت في حضرموت وشبوة!    إعلان هام من سفارة الجمهورية في العاصمة السعودية الرياض    لابورتا وتشافي سيجتمعان بعد نهاية مباراة اشبيلية في الليغا    رسميا.. كاف يحيل فوضى الكونفيدرالية للتحقيق    الصين تبقي على اسعار الفائدة الرئيسي للقروض دون تغيير    منظمة التعاون الإسلامي تعرب عن قلقها إزاء العنف ضد الأقلية المسلمة (الروهينغا) في ميانمار    منتخب الشباب يقيم معسكره الداخلي استعدادا لبطولة غرب آسيا    اتحاد الطلبة اليمنيين في ماليزيا يحتفل بالعيد ال 34 للوحدة اليمنية    البرغوثي يرحب بقرار مكتب المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية مميز    إيران تعلن رسميا وفاة الرئيس ومرافقيه في حادث تحطم المروحية    قيادات سياسية وحزبية وسفراء تُعزي رئيس الكتلة البرلمانية للإصلاح في وفاة والده    اشتراكي الضالع ينعي الرفيق المناضل رشاد ابو اصبع    مع اقتراب الموعد.. البنك المركزي يحسم موقفه النهائي من قرار نقل البنوك إلى عدن.. ويوجه رسالة لإدارات البنوك    مأساة في حجة.. وفاة طفلين شقيقين غرقًا في خزان مياه    وفاة طفلة نتيجة خطأ طبي خلال عملية استئصال اللوزتين    شاب يبدع في تقديم شاهي البخاري الحضرمي في سيئون    عبد الله البردوني.. الضرير الذي أبصر بعيونه اليمن    أرتيتا.. بطل غير متوج في ملاعب البريميرليج    الريال يخسر نجمه في نهائي الأبطال    تغير مفاجئ في أسعار صرف الريال اليمني مقابل العملات الأجنبية    مدارس حضرموت تُقفل أبوابها: إضراب المعلمين يُحوّل العام الدراسي إلى سراب والتربية تفرض الاختبارات    كنوز اليمن تحت رحمة اللصوص: الحوثيون ينهبون مقبرة أثرية في ذمار    الدوري الفرنسي : PSG يتخطى ميتز    غموض يحيط بمصير الرئيس الايراني ومسؤولين اخرين بعد فقدان مروحية كانوا يستقلونها    ارتفاع حصيلة العدوان الاسرائيلي على غزة إلى 35,456 شهيداً و 79,476 مصابا    اليونسكو تزور مدينة تريم ومؤسسة الرناد تستضيفهم في جولة تاريخية وثقافية مثمرة    دعاء يريح الأعصاب.. ردده يطمئن بالك ويُشرح صدرك    بعضها تزرع في اليمن...الكشف عن 5 أعشاب تنشط الدورة الدموية وتمنع تجلط الدم    توقيع اتفاقية بشأن تفويج الحجاج اليمنيين إلى السعودية عبر مطار صنعاء ومحافظات أخرى    اكتشف قوة الذكر: سلاحك السري لتحقيق النجاح والسعادة    وباء يجتاح اليمن وإصابة 40 ألف شخص ووفاة المئات.. الأمم المتحدة تدق ناقوس الخطر    اليونسكو تطلق دعوة لجمع البيانات بشأن الممتلكات الثقافية اليمنية المنهوبة والمهربة الى الخارج مميز    ياراعيات الغنم ..في زمن الانتر نت و بالخير!.    لماذا منعت مسرحيات الكاتب المصري الشرقاوي "الحسين ثائرآ"    في افتتاح مسجد السيدة زينب.. السيسي: أهل بيت الرسول وجدوا الأمن والأمان بمصر(صور)    هناك في العرب هشام بن عمرو !    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



رواية السبية .. الجزء السادس عشر بقلم عبدالحليم ابو حجاج
نشر في الجنوب ميديا يوم 13 - 01 - 2014


16
بكت سلمى وهي قابعة في أحد أركان تابوتها المقدس ، والحرس يحيطون به من خارج . مدَّت سلمى يدها إلى مرآة عتيقة ، يتوسطها شرخ يتفرع منه شروخ كالشرايين في ظاهر اليد ، ولكنها متماسكة بما يسمح لصاحبتها أن تنظر فيها فتصلح من أمر شعرها وعينيها . أطلتْ من خلالها على وجهها ، فطالعها خوف يطل من عينيها ، وحزن يتربع على شفتيها ، وتتساءل في نفسها : هل يطول مقامها ؟ وإلى أي مصير سيؤول إليه حالها ؟ ولا مجيب . وتدور برأسها لترى كل شيء يلفه الصمت والسكون ، فيكبر حزنها ويعمق جرحها ، وتعود لتسائل نفسها بصوت مسموع : كِلانا عنيد.... فما الحل ؟ وما المصير الذي ينتظرني أمام قوة العصفوري وجبروته ؟ بم أشتري خلاصي ؟ كيف أختزل الزمن وأقرِّب المسافات ؟ كلا ! أنا لست لعوباً ، وليس لي إلا الصبر ، ولن أفرط في الأمانة ، ولن أخون عهداً ، فما ذاك من طبع الحرائر! .
" أستير ! أيتها المرأة اللعوب : إنَّ شعبك يُمَجِّدُكِ ، فقد كان خلاصه على يديك ، ونجحتِ في انتزاع بيت " هامان " الذي أغريتِ به ذياك المليك الذي حَسُن في عينيه جمالك وشبابك ، فأسكره خمرك ، وذاب رغبة في جسدك العاجي ، فسقط المليك على صفحات التاريخ يوم أن امتدت إحدى يديه تتوِّج رأسك ، واليد الأخرى تمضي صكاً مَلَكِيَّاً بِصَلْب " هامان " على باب المدينة " .
" أستير : أنتِ أغنية ذلك الزمان ، وما زال شعبك يتغنى بك ، فقد سجَّلوا اسمك وتضحياتك في أسطار الألواح الذهبية ، وكنتِ لهم بطلاً قومياً أنقذ شعبه من الموت والاندثار والذوبان ، ورَدَّدَ الأنبياء الجَوَّالون حكايتك ، يحثُّون من خلالها نساء أخريات لِيَتَرَسَّمْنَ خُطاكِ ، وليهتدينَ بهديك . وها هو زماننا ، وما أكثر " الأستيرات " في هذا الزمان ! أستيرات مختلفات الأجناس والألوان ، وكلهن ناهدات الصدر، ناعسات الطرْف ، مكحولات العيون ، يَعْرِضْنَ لحومهن في صحاف قُدَّتْ من جذوع أشجار الزيتون في جبل الزيتون ، وتُدار على السُّمار كؤوس الخمر التي جَلَبْنَها من معاصر
الجليل ، فيأكل الآكلون ويشرب الشاربون ، ويزعم الرجال أنهم رجال وهم تحت إِبْطِ الليل يتفاكهون.." .
* * * * *
استدارت سلمى فجأة ، فانقبض لسان خيالها ، وثعترت عيناها فلم تَرَ شيئاً ، ولكنها سمعت طَرقاً خفيفاً على باب حجرتها ، ولم يطل بها الوقت حتى تحرك الرتاج ، وانفرج الباب عن وجه العصفوري الذي ظل واقفاً بالباب . نظرت إليه وأطالت في وجهه النظر وقد تسمَّر العصفوري مكانه ، فأحس منها النفور واللامبالاة ، فلاك أفكاره ، وابتلع ريقه ، وقال في صوت ينمُّ عن الحزم وهو يخطو إلى الداخل :
- أتأذن لي سلمى بالدخول ؟.
خفضت سلمى جفونها ، وقالت بصوت هادئ تفوح منه روائح العناد :
- ها أنتَ قد دخلت ، وما أحسب أنَّ رفضي يَرُدُّك .
تقدَّم نحوها بضع خطوات وهو يتئد ، وينظر إليها ويقول :
- لم يحدث أن اجترأ أحد فأوصد في وجهي باباً لمكان أرغب في الدخول فيه .
- إلا باباً واحداً ، لن تستطيع النفاذ منه .
فهِم العصفوري ما ترمي إليه سلمى ، فاربدَّ وجهه ، واستشاط غضباً ، ولكنه حاول أن يلتمس لها العذر، فقال :
- سأُقنع نفسي أني لم أسمع منك مقالتك ، مع أني قادر على تحطيمه .
- وماذا يفيدك بعد أن تحطمه ؟.
- هكذا أنا ، لا أعرف التوسط في الحلول ، ولا يحسن بكِ أن تظلي على ما أنتِ عليه من نفور .
وقفت سلمى أمام العصفوري ونظرت إليه في تحدٍّ ، وقالت وهي تصرخ في وجهه :
- في مقدورك أن تحطم.... أن تحرق.... أن تُميت....أن تفعل ما تشاء ، ولكنك لن تصل إلى مبتغاك ، أفهمت يا شيخ البلاد ؟.
ثار العصفوري ، ورفع يده وأنزلها على وجهها صفعة قوية ، وهو يقول بمرارة :
- بل اعلمي أني لا أَرُودُ الماء إلا صفواً ، ولا أبتغي من النساء إلا الحلال ، ولكني سأنتقم منك شر انتقام .
- وماذا ستفعل أكثر مما فعلت ؟.
- هيئي نفسك لأمر يصعب عليك حدوثه .
شهقت وشرقت بدمعها وقالت :
- ماذا تقصد ؟.
- ارتقبي عربة الزمن تحمل إليك الأخبار.
خرج العصفوري وقد صفق الباب وراءه صفقة خلعتْ قلب سلمى ، وتحرك الرتاج من خارج ، وانغلقت الحجرة على سلمى ، وانغلقت سلمى على نفسها ، وأخذت تسبح في شعاب أفكارها ، تروح وتجيء لعلها تصل إلى ما رمى إليه من خلال تهديده الأخير، ولم تفلح تخميناتها ، وإن كانت تستبعد الكثير من الظنون والتوقعات .
وعادت تجلس في فراشها وقد أطبق المساء إحكام ظلامه ، وانتشرت النجوم باهتات الضوء في صفحة السماء ، وبدا القمر كسيف الوجه تغطيه غمامة تعقبها أخرى ، فيتعاقب النور والظلام على المكان . وتسلَّل عباس متخفِّياً برداء الليل حتى وصل إلى الجدار الخلفي للحجرة التي تنزل فيها سلمى ، فأحدث حركة خفيفة على النافذة ، ونادى بصوت خفيض ، فهبَّت سلمى مسرعة وقالت لنفسها : " إنه صوت عباس " ، وما إن أطلت حتى كانا وجهاً لوجه فابتدرها :
- سمعتُ تحاوركما على غفلة من الحُرَّاس ، وليس لكِ أن تبقَي هنا يوماً .
قالت وهي تحت وطأة الذهول :
- ماذا تقول يا عباس ؟.
- أنْ تَفِرِّي خيرٌ لك من البقاء في سجنك .
- وإلى أين المفر ؟! أنسيتَ أنَّ العصفوري يبسط يديه على قريتنا ، وعلى كل القرى التي تجاورنا .
- لقد بدأ العصفوري ينحسر.
- كيف ؟.
- لقد تململت القرية ، وبدأ العمل سراً ، فهيئي نفسك لسماع أخبار المواجهة .
- إنك تفرحني ، ولكنَّ العصفوري ليس ضعيفاً ، وأهل القرية ليسوا في قوته .
- سترين عاقبة الأمور: خيراً لنا ، وشراً عليه .
- أفتظن ذلك يا عباس ؟.
- إنَّ الظن لا يغني عن الحق شيئاً يا سلمى ، بل هو اليقين .
وتوقف الاثنان عن الكلام لحظة حين سمعا صوت وقع أقدام تقترب ، فما إن ابتعدتْ حتى استأنف عباس قائلاً :
- مُريني أهيئ لك الخروج ، وأُمهِّد لكِ الطريق .
- إنها مغامرة ، إن حَِبطَتْ أعمالنا وقعنا بين ماضِغَيْ الوحش المفترس ، وقد
تمتد فتطال الكثيرين بالإيذاء . إذن ، فلنترك فكرة الهرب ، لعل الله يُحدث أمراً
يكون لنا فيه الفرج .
- ولكني حزين لكِ .
- ضع يدك في أيدي أهل القرية ، وكن معهم يا عباس لا عليهم .
- لقد كنتُ عليهم ، واكتشفت من خلالك خطئي ، فعدت إلى صوابي ، وعاد إلىَّ رشدي .
- ولكنكَ ما زلتَ تعمل له .
- نعم ، وسأظل أعمل له ، ومن خلال عملي له سأكوناً عوناً عليه .
- هل اتصلتَ بأهل القرية ، وعرضتَ عليهم خدماتك ؟ .
- يا للأسف ! لم يصدقوني ، بل إنهم ينكرونني ، وينكرون عليَّ ما يمكن أن أقوم به من دَوْر لصالح القرية وأهلها .
- اعذرهم ولا تَلُمِ ، وبإمكانك أن تعيد إليهم الثقة بك ، وأن تصل ما انقطع بينك وبينهم من وُدّ .
- ولكني موجع القلب حزين ، لأني أفتقد ثقتهم .
- هل أدلك على طريق تدنيك منهم وتدنيهم منك ؟.
- نعم !.
- أن تتصل بأسامة فهو صديق سعيد ، وأَحب الأصدقاء إلى نفسه . اقرئه مني السلام ، وتحدث إليه بما يجول في رأسك ، وسيكون لقاؤك به المُدخل الطيب لعلاقة مثمرة .
* * * * *
أصبحت القرية وأصبح المُلْكُ لله ، ولا إله إلا الله ، محمد رسول الله . وأشرقت الشمس فانسحب رداء العتمة ولبست القرية ثوباً زاهياً تُطَرِّزُه هذه الأشعة الحانية ، فيتفتح النوَّار ويتبخر ما فيه من قطرات الندى ، ويتهادى الهواء فيتأرج الوادي والجبل بأريج الزهور البرية ، فتتململ القرية ، ويدب فيها نشاط الفلاحين الذين عشقوا الأرض، وعشقتهم الأرض، فيتبادلان الحب والنماء ، ويتعاطيان الانتماء والولاء . وينهض العصفوري من رقاده وقد أصلح من هندامه ، وتهيأ للخروج تساعده إحدى أزواجه التي نام ليلته في حجرتها ، فتُقَدِّم له كل ما يحتاج إليه لوضع اللمسة النهائية في كمال هيئته وإظهار هيبته ، ولم يكن قد بقي من دورها إلا أن تُلقي على كتفيه عباءته ، فألقتها ثم استدار جهة الباب وقد يمَّم وجهه شطر ديوانه ، وراعه أن رأى النار هامدة لم تجد من يوقدها بعد ، فلم يُخفِ انزعاجه ، إذ نهر رضوان الذي فَزَّ من نومه مفزوعاً :
- لماذا أبطأتَ في إيقاد النار وقد اغتسلت القرية بأضواء الفجر؟.
- والله يا عم ، قد سهوْتُ ودهمتني غفلة من النوم .
- إذن هيَّا ، دعها تلتهب فتستقطب من يراها .
ونشط رضوان في إيقاد نار الصباح ، والعصفوري ينكمش تحت عباءته في صدر ديوانه ، وقد توافد المريدون واحداً تلو الآخر حتى انعقد مجلس العشيرة بجلسائه الدائمين. وما هو إلا قليل من الوقت حتى دار الساقي بفناجين القهوة العربية، وما إن رفع العصفوري فنجانه لأول رشفة حتى سمع جَلَبَة وصراخاً ، فدبَّ في قلبه الرعب ،
وتسلَّل إلى نفسه شيء من الخوف ، فأنزل الفنجان وصمَّ شفتيه ، وأصغى بأذنيه ، وتسمَّرت عيناه على الباب ، وكاد يقوم من مقامه ليقف على سبب هذا الضجيج لولا أن دخل عليهم عروة مولولاً ، فنهره العصفوري ليكفَّ عن صراخه ، ثم سأله :
- ما وراءك وقد أفزعتنا وأزعجتنا ؟.
- أخشى على نفسي.... منك .
استيقظ كل شيء في العصفوري ، وحَدَّق في محدثه ، وقال :
- قل ولا تراوغ .
- لقد ذهبت أتفقد الحظائر وأعلف البهائم ، فإذا بنعجة مفقودة .
- ماذا تقول ؟. وهل أنت متأكد ؟.
- نعم .
- وهل قصصتَ الأثر ؟.
- نفس الأثر ، وقد خرج صاحبه من نفس المكان الذي خرج منه سارق الديك .
طأطأ العصفوري رأسه مُغْضَبَاً ، وحَكَّ بيده لحيته ، وقال مزمجراً وقد بدا عليه
التوتر:
- انصرف عني .
ولم ينصرف عروة ، بل ظل واقفاً متسمراً ، يلوح على وجهه رعب شديد ، فسأله
العصفوري مستنكراً :
- هل تريد أن تخبرني عن شيء نسيته ؟ .
- الديك الأحمر الذي سُرق ليلة الأول من أمس .
- ماذا عنه ؟ هل أعاده السارق فاستبدل به نعجة ؟.
- كلا يا عم ! ولكني وجدت ريشه منثوراً أمام حظيرة الأغنام .
انتفض العصفوري ، وهبَّ واقفاً مذعوراً مما سمع ، فاختلجت وجنتاه ، وتراقص شارباه ، وقال متسائلاً :
- ماذا أسمع يا عروة....؟!.
وندَّت منه ابتسامة من جانب فمه تحمل بين طياتها معاني التحدي والتصدي ، وهَزَّ رأسه ، وضرب قبضة يده اليمنى براحة يده اليسرى ، فغابت ابتسامته ، وحَلَّ محلها عبوسٌ شديد ، ثم قال يخاطب نفسه :
- إنه التحدي إذن ، وأنا قبلت التحدي ، وإنه ولا شك تمرد منظم وراءه عقل مدبر، فمن يكون ؟ .
غارت أفكاره في أعماق هَمٍّ جديد ، وأخذت خواطره تتلاطم فتصفق قلبه ، فيزيد اضطرابه ، وصاح في محدثه :
- يا عروة ! .
- نعم يا عمِّ ! .
- أرسل في طلب مَنْ تجد من أولادي .
خرج عروة ودخلت الوساوس في صدر العصفوري وهو يُقَلِّبُ الأمور ويتساءل
ماذا يفعل ؟ وكيف يواجه هذا الاجتراء ؟ . ولاذ بالصمت دقائق حتى قطعه دخول أولاده عليه ، فرأوه على سهومه وقد بدا الهَمُّ والاضطراب على وجهه ، فيبادرهم بصوت كسير :
- إنها مصيبة أخرى !.
فيسأل نوَّاف أباه :
- ويحك يا أبتاه !.... ماذا حدث ؟.
- السارق ، عاد من جديد ؟.
- لم أفهم !.
- السارق يتحدانا بسرقة نعجة .
- ماذا تقول ؟.
- وقد حمل إلينا ريش الديك الأحمر ، ونثره أمام باب الحظيرة .
بُهِتَ جميعهم مما سمعوا ، وقد اشتد الغضب بنوَّاف ومنصور، وأخذ كلاهما ينظر إلى الآخر طالباً منه تفسير ما حدث بحسب رواية والدهم الذي ارتفع صراخه وقد
ارتعشت شفتاه ، وارتجفت يداه ، وقال مخاطباً أبناءه من خلال كبيرهم :
- ماذا أنتم فاعلون ؟.
قال نوَّاف :
- مُرْنا تَجِدْنا طَوْعَ أَمْرِك .
وقال منصور وقد أَمَّن على قوله كل من باجس وبرجس وجاسر:
- الرأي ما تقول يا أبتاه ، ولك منا السمع والطاعة .
قال أبوهم بهدوء مصطنع :
- أعيدوا إليَّ الديك .
فيتساءل مسعود وهو أحد أبنائه :
- كيف نعيده ولم يبق منه إلا ريشه ؟.
استدار الشيخ وحملق في ابنه مسعود وقال :
- إذا عاد الديك عادت النعجة ، فالسارق واحد . اجتهدوا ما أمكنكم للإمساك بالسارق قبل أن يعود فيسرق مرة ثالثة.... ورابعة.... وعاشرة .
ثارت ثائرة نوَّاف ومنصور ومسعود وفرج ، وأقسم كل منهم أن يُنكِّل بالقرية ويقلب أعاليها أسافلها . وتسمَّر جميعهم وقد تصرَّمت وجوههم ، وتطاير الشر والشرر من عيونهم ، والعصفوري يصيح :
- أعيدوا إليَّ الديك.... أعيدوا إليَّ سارقه .
الأبناء واقفون صفاً ، والشيخ العصفوري يدور فينظر في وجه كل واحد ، فاستوقفه
ما رأى وما قرأ في عيني أحد أبنائه :
- ما لك تكتِّم رأياً يطل من عينيك ؟.
- أخشَى إغضابك .
- ماذا تريد أن تقول ؟.
تلجلج عزام بعض الشيء ، فدعا تلجلجه أباه إلى أن ينهره قائلاً :
- أَفْصِحْ عن رأيك يا ولد .
فاستجمع عزام شجاعته ، ولملم أفكاره وقال :
- أرى يا أبتِ أن ندع هذا الأمر طي الكتمان .
نظر العصفوري إلى ولده عزام بكل غيظ ، ولكنه أخفى غيظه ، وقال مفتعلاً
الهدوء :
- لم أفهم عنك قصدك !.
- ألا ترى أننا سنفضح أنفسنا بألسنتنا ، وإننا سنذيع بأفعالنا أسراراً من أخبارنا، فيُنْقِص ذلك من قَدْرِنا ومكانتنا ، ويحث السارق وآخرين غيره على الاجتراء علينا أكثر فأكثر؟ . فكفانا بحثاً عن الديك ، وكفى تنكيلاً بأهل بيت جبرين .
- أنت جبان !.
- لا تتعجَّل الحكم عليَّ يا أبتِ ، ولا تأخذك بي الظنون بعيداً ، فإني لا أرتضي لنفسي أن أسير في طريق تؤدي إلى الإساءة إليك أو تنتقص من مهابتك ومكانتك إنْ نحن خرجنا إلى بيت جبرين نبحث عن السارق والمسروق ، فالسؤال يا أَبَتِ يَلِدُ السؤال .
- وماذا ترى ؟.
- أرى أن نشدِّد الحراسة ، ونفتح العيون ، ونعلن عن المكافآت الكبيرة للمخلصين من رجالنا إنْ أمسكوا يوماً بسارق جديد .
- ثم ماذا ؟.
- إنه إن عاد السارق فإنه لابد هالك ، وحينها تتكشف خيوط اللعبة ، ولك حينئذ أن تعاقب بحجم الجُرْم ، أمَّا أن نعاقب أهل بيت جبرين جميعاً فإنه تصرف مثير، يسبب لنا المتاعب ويستعديهم علينا .
استحسن العصفوري رأيه ، وقال وقد بداعليه هدوؤه الذي ردَّه إلى سابق اتزانه :
- وإن عاد السارق وغافلكم بسرقة أخرى ، هل يتغير موقفك ؟.
- نعم! حينها سأخرج للبحث والتنقيب عن المسروق وعن السارق ، ولن أخجل .
- وما الفرق ؟.
- إن عاد السارق فإني أتوقع أن يكون المسروق شيئاً ثميناً يستحق منا أن نَهُبَّ جميعاً هبة رجل واحد لأجله .
نظر الأب ودار مرة ثانية بعينيه يستقرئ الوجوه والعيون ، فرأى استحساناً لرأي أخيهم عزام ، ولكنه يسألهم :
- ما رأيكم فيما سمعتم من عزام ؟.
فتسابق الإخوة وأجمعوا رأيهم موافقين على ما أشار به عزام ، إلا نوَّاف الذي أسمعهم رأيه المخالف ، فقد عُرِفَ عنه أنه الرجل المطيع لأبيه ، والعنيف في تمرير إرادة أبيه ، فهو لا يتردد في تنفيذ إحدى رغبات الشيخ العصفوري مهما بلغت التكاليف . ولم يكن عنفه خافياً على أحد ، فكل من تعامل معه يعرف منه هذه الشدَّة وهذا العنف وهذه القسوة التي تلذه وتطربه ، وها هو الآن يقف بين يدي أبيه لا ليقول شيئاً بل ليتلقى الأوامر ، وما أسرعه في إنفاذها .
- نوَّاف !.
ويصحو نوَّاف من ذهوله على صوت والده يخاطبه :
- نعم يا أبتاه !.
- لا تَنَمْ حتى تُرَتِّبَ الحراسة ، واختر لهذا الأمر؛ الشديد من رجالنا ، الماضي من سلاحنا .
- كيف ننام والسارق قادم ؟.
- هل تظن ذلك ؟.
- ليس ظناً يا أبتاه ، وإنما هو اليقين .
- إذن ، كونوا يا أبنائي على قلب رجل واحد ، وإياكم أن تغفلوا عن بقائكم ، فإما أن نكون أو لا نكون ، ولكل حادث حديث .
* * * * *
تحرك رِتَاج الباب فسمعته ينزلق ، ثم أعقبه طرق رفيق .
- مَنْ بالباب ؟.
- أنا جميلة ، أتأذن لي سلمى بالدخول ؟.
- تفضَّلِي !.
وانفرج الباب عن وجه امرأة في عقدها الثالث ، مليحة الوجه ، وضاءة الجبين ، تميل إلى القصر ، فتبدو سمينة بثوبها الفلاحي المشتول عن إحدى ساقيها الكاسيتين بسروال ضيق ، تحمل بين يديها طبقاً من سعف النخيل عليه طعام الإفطار ، ولمَّا تشرق الشمس بعد .
وانحنت جميلة تضع الطعام ، وما إن أتمت ذلك حتى استدارت تستأذن للخروج ، ولكنَّ سلمى استوقفتها ، وطلبت أن تجلس إليها بعض الوقت .
- لقد رأيتك قبلاً ، ولكني لا أذكر أين !.
تبسَّمت جميلة وقالت بلكنة فلاحية عذبة ، وبلهجة الكشكشة :
- أنا جميلة زوج مصباح العريان ، وقد التقينا ليلة عرس سعاد . ألَا تتذكرين؟.
توقفتْ جميلة ثم أتبعت حديثها ابتسامة انفرجت لها شفتاها، فبانت أسنانها متراصة
ناصعة البياض حلوة المرأى . وأطرقت سلمى قليلاً ثم ضربت جبهتها براحة يدها ، وقالت :
- نعم... نعم ! تذكَّرْتُ ، لقد كانت ليلة.... يا لها من ليلة !.
ثم ثبَّتتْ عينيها في وجه جميلة تسألها :
- ولكنْ هل أنتِ تعملين هنا في القصر ؟ .
- نعم ، أنا وزوجي .
- ماذا يعمل زوجك ؟.
- سائساً للخيل .
- منذ متى تعملان هنا ؟ .
- منذ سنتين تقريباً .
- وهل تعملين نهاراً فقط أم تقضين الليل هنا ؟ .
- طبيعة عملي تُوجِبُ عليَّ البقاء ليلاً أحياناً ، فأنا مكلَّفة بخدمة سيدتي أُمِّ
عزام ، ولكني أقضي في القرية ليلة الجُمُعَة ونهارها مع زوجي وأولادنا كل أسبوع .
- وهل أنتِ مرتاحة في عملك ؟.
- وماذا بيدي غيره لأفعله ؟! فزوجي فقير الحال ولا مجال للرزق بعد أن سُدَّتْ في وجهه كل أبواب العمل في قرانا الخليلية .
- ومَنْ أرسلكِ بالطعام إليَّ ؟.
- سيدتي أُمُّ عزام .
- لم أَرَهَا منذ يومين ، عساها بخير .
فاقتربت جميلة من سلمى وقالت بعد أن تلفتت يمنة ويسرة :
- لقد حَرَّجَ عليها الشيخ العصفوري ومنعها من المجيء إليك .
- لماذا ؟.
- سمعتُ بعض جدل دار بينهما مفاده : أنها تُلِحُّ عليه لإطلاق سراحك ، أو يُسَرُّحها من ذمته .
ودارت الأرض برأس سلمى ، ولم تستطع استيعاب ما سمعت ، ولكنها تمالكت
نفسها ، وسألت :
- أتطلبُ منه الطلاق....؟!.
- إنْ لم يفعل ما تريد .
- وماذا....؟. تكلمي .
- أخشَى على نفسي إن تَسَرَّب شيء مما أقول .
- لا تخشَي مني ، فَسٍرُّكِ في بئر ما لها قرار .
وتشجعت جميلة وقالت :
- لقد هَدَّدَتْه .
- بماذا ؟ .
- لم أفهم شيئاً مما دار بينهما ، ولكني سمعت الشيخ العصفوري يقول لها : " ليس هذا شأنك " ، ثم علا صوته وقال لها : " أنا لا أخشى أحداً " .
وتوقفت جميلة عن الحديث ، واعتدلت في جلستها، وهَزَّت سلمى رأسها هزة تؤكد بها على شيء في نفسها ، وقالت :
- ما رأيك في الشيخ العصفوري ؟.
- فيمَ يا سلمى ؟.
- هل تخلصين له ؟.
- إنه ولي نعمتي ، وله حق عليَّ .
- وهل تحبين أهل قريتك ؟ .
- نعم ! إنهم أهلي .
- لو خُيِّرتِ ، فلأيهما يكون ولاؤك ؟ .
- للإثنين .
- اختاري واحداً .
فابتسمت جميلة وقالت :
- ماذا تريدين من وراء هذه الأسئلة ؟.
- لا شيء ، إنه حديث نقطع به الوقت .
فضحكت كلتاهما ، وعادت سلمى إلى سؤالها :
- أيهما تختارين ؟ .
- لا أفرط في أهلي !.
- اسمعي يا جميلة ، لا تخشَي على نفسك مني ، فأنا لستُ عيناً للشيخ العصفوري ، ولست لساناً يشي بك أو بأحد غيرك ، وما أظنكِ تجهلين سبب وجودي هنا .
- أعلم ما يعلمه أهل القرية .
- أتريْن العصفوري محقاً فيما فعل بي ؟.
- لا أعرف !.
- لو أنَّ العصفوري سَبَاكِ من بيتك ، وسجنكِ وسجن زوجك ، ونكَّل بأهلك . فماذا يكون ذلك ؟ .
- ظلماً.
- هل ترضيْن به ؟ .
- كلا ! .
- إذن ، ماذا كنتِ ستفعلين ؟ .
- سأقاوم .
- وبمَ تشيرين عليَّ أن أفعل ؟ .
- كما قضيتُ لنفسي أقضي لك .
- حسناً ، ما رأيك أن تمدي لي يد العون ؟ .
- كيف ؟.
- أن تأتي إليَّ بكل ما يدور في القصر وفي القرية أيضاً من أخبار وأحداث .
لوت رقبتها ، وابتلعت ريقها ، وقالت بلسان متزن :
- ليس قبل أن أستشير زوجي ، وأستأذنه .
- لكِ هذا ، ولكن هل أنتِ واثقة من زوجك أنه لا يُفْشِي سراً ؟ .
- نعم .
- ألا يُعقل أن يتودد زوجك إلى الشيخ العصفوري فينقل إليه كل شيء يراه أو يسمعه ، مُثْبِتاً بذلك ولاءه وإخلاصه ؟ .
- لن يحدث هذا من زوجي .
- إذن ، حذارِ يا جميلة أن يفشو السر ، فَتَحِلَّ على رأسي الكارثة .
- معاذ الله !.
- وسنلتقي ثانية إنْ شاء الله .
[email protected]
دنيا الوطن


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.