يعتقد الكثير والكثير إن جمال الحياة وروعتها تكمن في سن الشباب وهذا صحيح ، ولكن هناك مراحل ومحطات أخرى لها جمالها في هذه الحياة نعمة الله للبشر ، ولهذا لم يجعل الله الحياة ربيع دائم حتى يشعر الإنسان بالتغيير ويبعد عنه رتابة وملل التكرار ، الكون في حركة دائمة وتغيير ، جاء الخريف وفي الخريف سر غريب ، البعض يتهاوى ويستكين ويذهب في سبات عميق لسبب جيني في جسمه ، والبعض يدخل في طور البلوغ الثاني ، بلوغ عنفوان الجسد والعقل والروح .. تبدأ الحياة في أسمى مراحلها ومعانيها ، ويتهذب الوجدان وتشتعل في النفس روح الطموح والفن والجمال ثم يبدأ الإبداع والنظر إلى الحياة الجديدة عند الغروب ، إن الغروب ليس طويلآ ولكنه أجمل ، فيه الكبرياء والعظمة .. فيه الشعور بالحب لكن دقيقة من العمر، فيه الإحساس لكل ما نملك والتأمل العميق، فيه التذوق للشعر والفن. ساعات في خريف العمر لا نستطيع أن ندركها إلا إذا كان لنا لدينا العلم والثقافة ورقة الإحساس .. الخريف إبداع رباني .. وسكينة في الروح والقلب. جاءت جارتي تمشي في حياء وخجل .. كانت في خريف العمر .. طويلة القامة، جميلة بيضاء كقطعة مرمر وشعر أحمر كشفق المغيب وصدر جميل يحمل عنفوان الخريف. قالت أعتذر عن إزعاج الأطفال وهم يلعبوا تحت العريشة .. عريشة العنب ، قلت لها يا سيدتي إن صوت الأطفال هو صوت الموسيقى السرمدي ، كم أشعر بالسعادة حين أسمع لعبهم .. إنه هتاف الحياة والأمل ، حين يبدوأ اللعب أقفل صوت الموسيقى من محطة إف إم ، لأسمع تلك الأصوات البريئة وهي تضحك وتلعب وأسافر بعيدآ وأتذكر طفولتي وجمال أمي .. أسافر بروحي إلى وطني عبر الأثير .. أثير الحب والفن والجمال. قلت لها يا سيدتي أملك وطن جميل كنا نموت فيه من العشق والحب .. يا سيدتي موطني بلد العيد والحب، يا سيدتي بلادي سميرة النجوم وأخت القمر. ضحكت جارتي وغادرت بيتي . عدت للكتابة وتسمر قلمي ، كنت أنظر إلى طفاية السجائر وبقية أحمر في عقب السجائر و رائحة عطر لست أدري هل هو شذى عطرها أو شجرة الياسمين التي تدخل غرفتي. ما أروع الشتاء ونار المدفأة يشعل الدفء في جسدي وصوت فيروز يشعل النار في قلبي وهي تهمس .. أقول لجارتي تعالي نسهر .. وعندنا لوز وتين وسكر . لم يخيب ظني جاءت جارتي تحمل باقة ورد وضعتها على المزهرية ، ورأيت كأن عمري هي تلك اللحظات في المزهرية ، شاع بيننا جو مرح ، سمعت ضحكتها وعفويتها أحضرت معها ديوان شعر وبدت تقرأ بصوت كأنه همس الملائكة فسكرت روحي من خشوع الترتيل وأصبح العمر ثواني وغرقت في بحر الياسمين، تحدثنا طويلا وسرحنا في أودية الشعر والأدب ، كان لها إطلاع أدبي وفني عريق و محاولات شعرية في العربية والإنجليزية . تلقيتها من عالم جمال مسحور .. كما تلتقي العين بيمينها وشمالها وبدون أدري أدخلتها محراب شعري ، كانت أنيقة في إستقراطية نبيلة ، لم أرى في حياتي إمرأة تدخن السجائر بمثل هذه الروعة ، لم تكن تدخن بل كانت تعزف لحن موسيقى . من قال إن الخريف موت .. إن الخريف هو بداية الحياة .. لقد هز قلبي خريف إمرأة. بعد هذه الرحلة الطويلة في الحياة .. أقول إن روعة الحياة في الخريف .. خريف إمرأة . محمد أحمد البيضاني كاتب عدني ومؤرخ سياسي