يعاني إخواننا المسلمون في شبه جزيرة القرم من اللأواء والشدة جراء خوفهم من الضم الروسي الذي أذاق المسلمين في عهود الشيوعية وما قبلها صنوف العذاب، ولعل أكثر المسلمين اليوم لا يعلمون شيئاً عن أحوال إخوانهم في شبه جزيرة القرم التي دخلها الإسلام في النصف الأول من القرن العاشر الميلادي عن طريق الرحالة والتجار المسلمين، إذ تعود تسميتها بهذا الاسم إلى الأصول التترية والتي تعني«القلعة»، وكانت تضم مناطق ما يسمى الآن شبه جزيرة القرم والأراضي المحيطة ببحر آزوف (يتبع روسيا اليوم) وشمال جزيرة القرم (في أوكرانيا اليوم)، أما تسمية التتار فهي تسمية لاحقة لا علاقة لها بالمغول التتار، يفسرها المؤرخ د. محمد صبحي عبد الحكيم بقوله : وقد أعطى الروس اسم التتار لمجموعة متنوعة من الشعوب المتحدثة بالتركية وبغيرها قبل وصول الإسلام بوقت طويل، وبعد وصول الإسلام مال الروس إلى تسمية كل المسلمين باسم التتار، أما اليوم فيطلق هذا الاسم على عدة شعوب مرتبطة ببعضها بعضاً، والتتار الحاليون لا يمكن اعتبارهم أحفاداً مباشرين للمغول التتار، الذين اكتسحوا معظم أوراسيا في القرن الثالث عشر، من العام 1441 - 1783م. وعن الإرث الإسلامي في القرم يقول الأستاذ «سيران عريفوف»، بكالوريوس دراسات إسلامية جامعة الجنان - لبنان، ورئيس الهيئة التشريعية في اتحاد المنظمات الاجتماعية «الرائد» في أوكرانيا، وعضو الإدارة الدينية لمسلمي القرم : ( قامت على أراضي القرم مملكة قرمية تترية مسلمة توالى على حكمها خمسون خاناً، كان أشهرهم الحاج «كراي»، مؤسس المملكة، وكان معاصراً للسلطان «محمد الفاتح»، و«غازي كراي» الذي كان أديباً وشاعراً وقائداً عسكرياً اجتاح مناطق واسعة من روسيا، ودخل موسكو وأجبر أميرها على دفع الجزية، كانت عاصمتها مدينة بغجة سراي (بختشيسراي حالياً) مدينة عامرة بالمساجد (حوالي 32 مسجداً) والمدارس والقصور والدور والحمامات والحدائق والبساتين. عام 1474م أصبحت مملكة القرم حليفاً للدولة العثمانية، ساعدتها في جميع حروبها ضد الروس والملدافيين، واستمر هذا الحلف إلى عام 1774م، عندما دخلت القرم تحت الوصاية الروسية، وقد كان لخانية القرم دور في ترسيخ الإسلام في هذه البلاد إلى يومنا هذا، وقد خرّجت العديد من العلماء والفقهاء والنحويين والقراء، الذين دونوا إنتاجهم العلمي باللغة العربية وأحياناً بالتركية العثمانية؛ ما أسهم في دفع مسيرة الحضارة الإسلامية، وقد تبوأ عدد من العلماء مناصب الإفتاء والإمامة في مساجد إسطنبول ومكة والمدينة وفلسطين، كما كانت هذه الخانية خط الدفاع الأول ضد الأطماع الروسية في الأراضي الإسلامية، التي كانت تحت السيادة العثمانية، وساندت الأخيرة في أكثر من مناسبة، وقد زار هذه المنطقة عدد من الرحالة المسلمين مثل: ابن بطوطة، وأبو عبيد البكري القرطبي، وأبو حامد الغرناطي، والرحالة التركي أوليا جلبي. في وقتنا الحاضر التزم المسلمون في القرم بموقفهم الذي يقضي برفض الانفصال عن أوكرانيا، ورفضهم كذلك للحرب لأنهم أهل سلام، ولما علق في ذاكرتهم من الأهوال التي مرّوا بها طوال تاريخهم إذ بدأت معاناة تتار القرم عقب ضعف الدولة العثمانية والحروب الكثيرة مع الدولة الروسية، حيث تخلت الدولة العثمانية عن القرم، ووقعت اتفاقية عرفت بمعاهدة «كوجك قينارجه»، نصت على منح القرم استقلالاً ذاتياً عن الدولة العثمانية عام 1774م، ليبدأ الوجود الروسي لأول مرة في شبه الجزيرة، ولكن الروس بقيادة الإمبراطورة «يكاتيرينا الثانية» خانوا الاتفاقية ونقضوها، واحتلوا الجزيرة عام 1783م، وأحرقوا ودمروا عاصمتها والكثير من المعالم الحضارية الإسلامية فيها، وكان في القرم آنذاك نحو 21 ألف معلم إسلامي، بين مسجد ومدرسة وكتاب وغيرها تعرض معظمها للتهديم، ثم سرعان ما بدأت معاناة مسلمي القرم، من خلال حملات الاضطهاد المنظمة، التي دفعتهم إلى التشتت في دول آسيا الوسطى وسيبيريا وتركيا وبلغاريا ورومانيا، ومورست ضدهم شتى أنواع العنف والتمييز، إذ هدمت مساجدهم ومدارسهم وبيوتهم، وأحرقت مصاحفهم وكتبهم بهدف إفراغ القرم من أهله وإحلال الروس مكانهم، وبعد حرب القرم (1853 - 1856م) بين روسيا من جهة والدولة العثمانية وفرنسا وبريطانيا من جهة أخرى، عمدت الحكومة الروسية إلى طرد أعداد كبيرة من المسلمين التتار بحجة انحيازهم إلى الأعداء، وفي نهاية العشرينيات من القرن الماضي شن الشيوعيون حملة تطهير ضد المفكرين التتار، وتمّ قتل 3000 إمام، ونفي 40 ألف مسلم إلى سيبيريا، وعلى أثرها أُعدم رئيس الحكومة والمفتي التتري آنذاك «نعمان تشلبي جيهان»، أعنف هذه الحملات كان على يد «ستالين» في 18 مايو 1944م، عندما قام بتهجير جميع السكان التتار إلى آسيا الوسطى وسيبيريا (حوالي 300 ألف مسلم جلهم من الشيوخ والأطفال والنساء)، في عربات قطار مخصصة للحيوانات، وفي ظل برد قارس قضى على عشرات الآلاف منهم، في حين كان كثير من الشباب القرمي يخدم في الجيش الأحمر السوفييتي، وفي مختلف الوحدات والرتب والجبهات العسكرية، بعد ذلك تمّ تغيير 80% من أسماء المدن والقرى والبلدات القرمية إلى أسماء روسية، واستُجلب الروس والأوكرانيون من «العمال الكادحين» للعيش في القرم بدلاً من التتار الذين صودرت أراضيهم وممتلكاتهم بعيد التهجير. وهكذا مرّ إخواننا القرميون المسلمون على طول التاريخ بمحن شتى وابتُلُوا في دينهم بل ومات الكثير منهم في سبيل الاستمساك بدينه وأصبحوا اليوم ينادون بوحدة القرم مع أوكرانيا لأن الروس نقضوا عهودهم عدّة مرات مع المسلمين التتار ولا أمان لهم، فماذا فعلنا اليوم لنصرتهم ؟ وما هي مظاهر تلك النصرة، هذا إذا علمنا أن أجيال اليوم قد اهتمّت بأشياء أخرى وأصبحوا لا يعلمون من أمر إخوانهم الأقربين شيئاً ناهيك عمن يبعدون عنهم بمراحل وسط تجاهل إعلامي متعمد لمآسيهم . نصرهم الله .