عشت كما يعيش أهلي وإخوتي وأحبائي في ألم وحسرة على موطني المسلوب .. أرض الجنوب العربي .. فيه الشباب الثائر المتحمس في نضاله ، يواجه عتاد المحتل بصدور عارية لا يهاب الردى ، أسمع أنين الجرحى وذوي العاهات ، ويستوقفني بكاء الثكالى وسؤال الأطفال الأبرياء عن ذويهم الذين غابوا عن أنظارهم دون عودة ، وآثار دماء الشهداء التي تنير طريق الحرية والفداء .. فهل يدب الألم والحسرة والشعور بالفراق لدى الأحياء والأخيار وولاة الأمور ؟ . بدأت أبحث مجددا عن مرفأ للإرساء بعد أن أحسست بتلاطم الأمواج يمنة ويسرة ، وربابنة السفن يراقب كل منهم الآخر ويغرد وكأن الأمر لا يعنيه منه شيئا ، وآخرون يلبون بما يملى عليهم ، ومنهم من يمتلك الحكمة ورجاحة العقل ، والكل يجمعهم هدف الوصول إلى بر الأمان ...فبحكم المراسة الكل يدرك بأن الماضي يمثل الدروس والعبر من الحياة ، والحاضر هو نقطة التحول والتحديث ، أما المستقبل هو الوصول نحو تحقيق الهدف ، إن المعاناة تكمن في الإصرار والادعاء بمعرفة الأمور من قبل البعض ، وآخرون لا يعرفون سوى خاتمة الفاتحة ، ومنهم من يرجح عقله ممارسة الفعل بتحكيم العاطفة على العقل والمنطق .. أما المأمومين ينتابهم الرسوب في العلم والمعرفة فتتفاوت قدراتهم ، نجد البعض منهم تتغلب عليه العصبية والتزمت بترديد ما يقال لهم أو ما يملى عليهم ، وترسخت لدى الآخرين عمق الثقة فلا يميزون شيئا من مجريات الأحداث غير القلقلة وتسريبها بل الجزم على صحتها دون وعي أو إدراك بحكم الاختراقات في المفاصل .
أن بقاء الخلاف والاختلاف وتناميه يشكل خطرا جسيما على ثورتنا الشعبية السلمية، والتشبث على المواقف يخلق الهوة والتنافر والعداء والانقسامات التي تنعكس سلبا على الحياة العامة وتؤخر مسار حركتنا التحررية إلى الخلف ، فإذا كنا أحوج إلى تحقيق ما نريد وهو الهدف السامي الذي استشهد في سبيله قوافل من الشهداء ونطبقه على الواقع العملي بدلا من ترديد الشعارات ، فلا سبيل ولا مخرج للإرساء الى بر الأمان إلا بالركوب جمعا في قطار واحد لينقلنا إلى السلم والسلام وبناء دولتنا الجنوبية الفيدرالية الجديدة ، ومن أجل ذلك دعونا نجسد عمليا دور الحوار وأهميته من خلال المقتطفات والدلائل التي ترشدنا إلى سمة الحوار وهي :
( 1 ) إن مفهوم الحوار هو الوصول إلى الحق ، فمن كان له طلب وغرض للحق وصل إليه بأقرب الطرق وألطفها وأحسنها ، لأن الحوار كلمة رقيقة وجميلة تدل على التفاهم والتفاوض والتجانس ، وقد ذكره الله في كتابه العزيز : { قال له صاحبه وهو يحاوره } آية 37 من سورة الكهف ، وكذلك حين تحاور عليه أفضل الصلاة والتسليم مع المرأة الضعيفة المسكينة التي تشكو من زوجها ، قال جل شأنه وعظمت قدرته : { والله يسمع تحاوركما } آية 1 من سورة المجادلة .. وقد نص عليه في كتابه العزيز رفعة لشأن الحوار وإثباتا لأهميته .
( 2 ) لقد ميز الله الإنسان عن غيره من المخلوقات بصفة الكلام والحوار وأثنى عليه في آيات كريمات ، ففيه التحاور مع الأبناء كما قال لقمان عليه السلام لإبنه : { يابني } آية 13 من سورة لقمان ، كما إن التحاور مع أهل الكتاب في قوله تعالى : { قل ياأهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا تعبدوا إلا الله } آية 64 من سورة آل عمران ، كما في التحاور مع المشركين ، قال تعالى : { وإن أحد من المشركين إستجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه } آية 6 من سورة التوبة .
( 3 ) إن الطريق الواضح هو طريق الحوار الذي سلكه الرسول صلى الله عليه وسلم قبل أن يحمل السيف بدليل قوله تعالى : { لقد أرسلنا رسلنا بالبينات } آية 25 من سورة الحديد قبل أن يرسلهم بالسيوف القاطعات والرماح المرهفات ، أرسلهم بالآيات والبينات ، وقد قال إبن تيمية رحمه الله تعالى إن الأنبياء بعثوا بالحجج والبراهين ، ولكن من الطبيعي فإن الخلاف واقع في الأمة ..قال سبحانه : { ولايزالون مختلفين * إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم } آية 118 ، 119 من سورة هود .. ( قيل إن اللام هنا ليست للقصد ولا للسبب عند بعض المفسرين وإنما للصيرورة ، وقيل إن الله سبحانه وتعالى خلقهم فنوّع في مفاهيمهم .. فوقع الخلاف في ذلك .
( 4 ) من هنا يتبين بأن الخلاف في الأمة على قسمين : ( أ ) خلاف تنوع : وهو الذي يسلك في الفروع لا في الأصول ، وفي الجزئيات لا في الكليات . ( ب ) خلاف تضاد : وهو المذموم ، قال سبحانه وتعالى : { ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لهم عذاب عظيم } آية 105 من سورة آل عمران .. وهم الذين يخالفون في القطعيات ، وثوابت الأمة ، وأصول الملة وهذا خلاف مذموم .
إن الحوار هو الحل الوحيد والأساسي الذي يرفض القتل والانقلاب كما يرفض تقويض رأي الآخرين وهدم فكرهم بالاتهام أو الظنون أو شهار سلاح التكفير أو التخوين نتيجة لشحونة الأجواء السياسية واحتدام حدة المنافسة والمشاحنات .. لسنا على بعد عن أدب الحوار سواء في المؤسسات ، المنظمة ، التنظيم بين الأعضاء وفي التعامل مع الآخرين يؤسس لاحترام الاختلاف ، واحترام الذات ، واحترام الرأي والرأي الآخر ، ويكرس المجتمع الديمقراطي ، فلا حوار دون وجهات نظر ، ولا خلاف يظهر دون تحاور يجعل من احتكاك الآراء مدخلا للتفكير وبروز الخيوط واتجاهات الرأي .