شاهدنا في الآونة الأخيرة مواجهات مسلحة متكررة و مؤسفة في العاصمة عدن ، و سمعنا الأصوات تعلو بصخب ، من هنا وهناك ، من قبل طرفين سياسيين متخاصمين ، يتنافسان بشراسة على الهيمنة و السيادة ، وكل منهما ، يزعم تمثيله المطلق للمقاومة الجنوبية . الأمر الذي خلق تشوشاً واضطراباً كبيرين لدي المتابع السياسي ، فضلاً عن المواطن العادي في بلادنا. ولا شك إنَّ الطرفين اللذين يزعمان تمثيل المقاومة الجنوبية ، كانا ، قبل أن يتقاتلا ، قد قاتلا جنباً إلى جنب ، وإن بنسب متفاوتة من الحماس والقدرة ، في المعركة "الكبرى" ضد المحتل الفاشي ، الحوثي- عفاشي ، وقد قاتلا ، كما نعلم ، بانسجام وتناغم ، من أجل تحرير عدن من قبل القوى الطائفية المهيمنة حينها ، إلا إنَّ الوضع تغير كثيراً عقب تحرير عدن، وبدأت الخلافات السياسية تدب ، وتطفو على السطح و أصبح كل طرف يقلل من شأن الطرف الآخر ، ويدعي تمثيله الكلي للمقاومة الجنوبية دون غيره. والسؤال إذن ، هو: كيف يمكن لنا التعاطي مع هذا الوضع الملتبس ؟ لا شك إن الكثيرين قد حملوا السلاح و قاتلوا ببسالة ضد قوات الرئيس المخلوع والحوثيين ، و لكنهم قاتلوا بدوافع سياسية و عقائدية مختلفة. فالتيار السلفي ، مثلاً ، كان يقاتل بدوافع عقائدية ، طائفية بحته ، وكان هدفه إزاحة "الروافض" من المسرح العسكري والسياسي والحلول محلهم. فالتيار السلفي ، كما يزعم أنصاره ، يمثل الإسلام النقي ، أو الفرقة الناجية ، التي يمكنها ، دون غيرها ، أن تقود المسلمين إلى الطريق القويم ، والمؤهلة وحدها أن تقيم شرع الله على الأرض. وهذه الحركة تحرص في الغالب ، على الشكليات الدينية ، ولا يعنيها أمر تحرير الجنوب من التخلف والفاقة ، كما أنها لا تؤمن بقضايا العدالة الاجتماعية و الحرية و بناء دولة المؤسسات و سيادة القانون . و هي ، أي الحركة السلفية ، تحرص كثيراً على الوضع الراهن ، status quo ، من خلال إطاعة ولي الأمر ، بشرط أن يكون من ذات الفرقة ، على الطريقة الوهابية ( أي أتباع الشيخ الإمام محمد بن عبد الوهاب النجدي). الأكثر من ذلك أنها حركة متطرفة ، تكفر، ودون تردد ، كل من يتبنون التوجهات السياسية الحديثة والقيم الديمقراطية المعاصرة ، ويسعون إلى بناء دولة مدنية حديثة ، تستند على العقل وتحقق العدل و تستمد شرعيتها من الشعب، وليس من أوهام المتطرفين والمغفلين وخدم السلطان. وبالإضافة للجماعات السلفية المشار إليها آنفاً ، هناك جماعة حزب الإصلاح ، الأخوان المسلمين ، التي اكتفت بتقديم الدعم المالي و الإعلامي و المعنوي لجناحها من المقاتلين. والأخوان المسلمون ، كما نعلم ، يدعون احتكارهم للإسلام ، و يزعمون ، على النقيض من الشواهد التاريخية الكثيرة ، أنهم أكثر من غيرهم ، يمتلكون شرعية تمثيله ، وبالتالي يستطيعون ، دون غيرهم ، تجسيده في واقع حياة الناس. وبالمجمل ، يمكن القول، و دون مواربة ، أن هاتين الجماعتين ، أي الجماعة السلفية وأتباع حزب الإصلاح ، المسكونتين بالأوهام ، لا تمثلان سوى نسبة ضئيلة من المجتمع. ولكن يبدو إن هذه الجماعات ، بشقيها السلفي والإخواني ، غدت تنمو بشكل سريع، خاصة بعد أن استولت على الكثير من الأسلحة الخفيفة و المتوسطة ، وحظيت وتحظى بالكثير من الدعم المالي الذي أصبح يتدفق عليها بسخاء كبير من قبل بعض الدول الإقليمية ، و من قبل رجال المال والإعمال في حزب الإصلاح. و بسبب كل هذه العوامل المتداخلة ، أصبح نفوذ هذه الجماعة يتزايد ويتسع على حساب نفوذ القوى الديمقراطية الحديثة، التي أصبحت في وضع لا تحسد عليه . فهي إذ تسعى لتحرير المجتمع من "تطرف ما يسمون بالروافض* حسب وصف خصومهم لهم ، فأنها تجد نفسها في مواجهة موجة كبيرة من جنون النواصب*، حسب وصف الطرف الآخر لهم . أما الشعب اليمني فوضعه كوضع المستجير من الرمضاء بالنار! و ليس بخافٍ على أحدٍ إنَّ هذه الجماعة المتطرفة ، بجناحيها السلفي والإصلاحي ، ونتوءاتها القبيحة الداعشية والقاعدية، تقوم باستغلال الشباب ، الذين يعانون من الفقر و البؤس ، وهم كثر ، وتوفر لهم الإعانات المالية و الرواتب الشهرية ، وتجتذبهم إلى صفها للقتال ضد "السلطة الشرعية" ، بحجة إن السلطة الشرعية أهملتهم ، ولم تعترف بهم ، و هذه ، بالطبع ، دعوة حق يراد بها باطل. ذلك أن الغرض الحقيقي لهذه الجماعة ، كما جلي ، هو سعيها للهيمنة ، وفرض الأمر الواقع على المجتمع ، تماماً ،كما عمل الطرف المناقض لهم ، أي "الروافض" ، في وقتٍ سابق . ولهذا الغرض فأننا نرى إنًّ هذه الجماعات تُحْكِمُ سيطرتها على المساجد و المعاهد الدينية لنشر الفكر المتطرف، وهي تقوم ، وبدأب لا يكل ، بالتحريض ضد المقاومة الجنوبية ، المنبثقة من صلب الحراك الجنوبي ، الذي خرج لمواجهة قوات الرئيس المخلوع و حليفه حزب الإصلاح الفاسد والمفسد في صيف عام 2007م. من المعروف إن القيادات البارزة للمقاومة الجنوبية لم تقبل المشاركة في السلطة لمجرد السلطة ، ولكنها قبلت بها كوسيلة لغاية كبرى، من خلال العمل بالشراكة مع السلطة الشرعية اليمنية، الممثلة بالرئيس عبدريه منصور هادي ، و السيد خالد بحاح ، نائب الرئيس ورئيس مجلس الوزراء ، المسنودين بدعم التحالف العربي . وكانت غاية الحراك ومازالت هي تثبيت الأمن و الاستقرار و تجنيب الوطن الفوضى ، التي أصابت بلدان شقيقة كالعراق وليبيا ، وبغية إعادة بناء ما دمرته الحرب، وفتح باب الأمل أمام الشعب في تكوين سلطة جديدة ، تجسد تطلعاته المشروعة في الحرية والكرامة والعدل والتقدم. إنَّ الحراك الجنوبي السلمي ، وعلى النقيض من الجماعات السلفية ، يحمل مشروعاً سياسياً حديثاً ، ويهدف إلى تقرير المصير لأبناء الجنوب ، وبناء دولة مدنية حديثة على أنقاض دولة الفساد والفوضوية الطائفية والقبلية والخراب. ومن هذا المنطلق شارك الحراك الجنوبي ، وإن بحذر شديد ، في السلطة القائمة ، تمهيداً لتنفيذ برنامج الحراك وتحقيق كامل أهداف الشعب. إذاَ، فإن المقاومة الجنوبية الحقيقية ، ليست هي الجماعات السلفية المنفلتة التي تحارب طواحين الهواء ، وتسعى للانتقام من التاريخ بدواعي طائفية ضيقة عفا عليها الزمن ، وإنما هي تلك الطلائع الثورية ، التي تسعى لوضع التاريخ في مساره الصحيح ، و تحظى بتوجيه قيادة الحراك الجنوبي الديمقراطي، المتجذر في أوساط الشعب، والذي استطاع خلال السنوات المنصرمة إخراج أكثر من 13 مليونية في العاصمة عدن وحدها . وبالتالي لا ينبغي أن يُسمح لجماعة متطرفة ، ضيقة الأفق ، معطوبة بالأوهام ، و محدودة العدد ، ولا تتميز بشيء سوى أنها مسممة بالخرافات والنزعة العدمية ، ومسمَّنة بالسلاح والمال والدعم الخارجي ، لقاء أدوارها المشبوهة ، أن تسيطر على المناطق المحررة باسم المقاومة الجنوبية ، وتقرر ما ينبغي عليه أن يكون حاضر ومستقبل الوطن والشعب . وعلى الجميع الاعتراف بقرار السواد الأعظم من أبناء الشعب و الالتزام بالعمل المؤسساتي والقانون، لتمهيد الطريق نحو بناء الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة. و لا شك إن للشباب مطالب مشروعة ، خاصة بعد خذلانهم و عدم استيعابهم في القطاعين الأمني و العسكري ، وعدم حل مشكلة البطالة المتفاقمة والفقر المدقع الذي يعصف بحياتهم وحياة أسرهم. والعناصر الإرهابية ، كما نعلم ، تستغل الفقراء في المجتمع ، وخاصة الشباب منهم ، ولهذا ينبغي على "السلطة الشرعية" و دول التحالف الاهتمام بالشباب من خلال وضع خطط واقعية لحل مشاكل الفقر و البطالة في أسرع وقت ممكن و إلا فإن الجماعات الإرهابية جاهزة لاستيعابهم و استغلالهم في خدمة مشروع الموت و الدمار الذي لا تملك شيئا سواه. ولا شك أن هناك و اجب و طني يتصدر قيادات الحراك التقدمي الديمقراطي ، ويتمثل بتوعية الشباب وبذر الأفكار والقيم الديمقراطية الحديثة في العقول والقلوب ، و تحريك الشارع من جديد ، إذا استدعت الضرورة ، لكي تعرف الجماعات المتطرفة حجمها الحقيقي في الوطن التواق للحرية والاستقرار ، و بناء الدولة المدنية الحديثة و سيادة القانون، وليس للتطرف والخراب والموت. إن الأمل الوحيد مرهون في إعادة بناء الدولة في الجنوب التي ينبغي أن تكون النموذج الديمقراطي الأمثل ليس فقط لليمن ولكن لكل منطقة الخليج والجزيرة العربية. لقد اثبت التاريخ القريب و البعيد إن البشر ، حتى في ظل التنوع الثقافي والعرقي ، قادرين فقط على التعايش في إطار دولة النظام والقانون ، وليس في ظل الأنظمة القبلية والعسكرية و الطائفية . فائدة: *الروافض: سموا بذلك لأنهم رفضوا خلافة أبي بكر وعمر ، رضي الله عنهما. *والنواصب: هم أولئك الذين نصبوا العداء لعليّ ، رضي الله عنه، وبغضوه وكرهوا من نسب إليه ، وتعدى هذا العداء لآل البيت. والطرفان جماعتان متخلفتان ، تناهضان القيم الإسلامية الصحيحة التي تدعو إلى العقل والعدل وخدمة الإنسان المعاصر على أساس القاعدة الكريمة: { يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأُنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند اللّه أتقاكم إن اللّه عليم خبير} ، وليس على قاعدة الصراعات المؤسفة في التاريخ الإسلامي، التي تُستغل اليوم من قبل إسرائيل والقوى الامبريالية ، بغرض تمزيق العالم العربي والإسلامي، تمهيداً للسيطرة عليه ، تحت ذريعة أن هذه الشعوب غير قادرة على حكم نفسها بنفسها ، وبالتالي لا بد أن يحكمها غيرها. إنها ذات الحجة الاستعمارية القديمة.