قبل أن يقوم بإنعاش روح صديقه العجوز، وعرابه، لإعادته إلى الحياة مجددًا، بتعيينه نائبًا له في كل شيء، عدا تلك الأمور المتعلقة بالذهاب إلى الحمام لقضاء الحاجة بالطبع! كنت أكتب عنه في مثل هذا اليوم، قبل عام، وكان هو في طريقه إلى السعودية للقاء عرابه هناك في الرياض. كان الجنرال علي محسن الأحمر "قائد جبهة عدن في حرب صيف العام 94"، والذي تعود أن يقدمه لنا الإعلام، والإعلاميون، دائمًا، على أنه الرجل الثاني في نظام صالح، هو فعليًا "عراب" النظام الجمهوري "السعودي" في اليمن، منذ زمن بعيد، بالتحديد، منذ زمن ما بعد عهد "الحمدي والغشمي"، شمالاً، وحتى عهدي "صالح وهادي" في ظل دولة الوحدة. حتى عندما كان في أضعف حالاته، غير قادٍر على حماية مسكنه ونفسه، كان أيضًا الرجل الأول بالنسبة للسعوديين.
لنلقي نظرة على أهم الأمور التي حدثت مؤخرًا؛ وما تزال تحدث الآن .. تلك الأمور التي يختلط فيها الماضي بالحاضر بالمستقبل، وترسل رسائل لا يمكن لنا أن نتجاهلها: لا يستطيع محسن أن يخفي أمر رفضه العيش بدون سلطة ونهب وجنوب! حتى وإن كان يبلغ من العمر (70) عامًا، ويعتبر في آخر مشوار حياته، تمامًا كما لا يستطيع هادي الظهور بمظهر المسئول، مهما تنوعت بدلاته الرسمية، وغلت ماركاتها، أو حتى عاد به السن (50) عامًا إلى الوراء، فيما لم يعد بمقدور صالح التفكير بالعودة إلى الحكم مجددًا، وإن قام بملء ساحات اليمن قاطبة بمظاهرات تأييد له.
حتى الحوثيون، اللاعبون الجدد، ومشعلو الحريق الكبير، لم يعد بإمكانهم سوى تقبل الحقيقة: "لا يمن دون السعودية" .. ولا "سعودية في ظل يمن لا يقبل الوصاية عليه".
سيخلد هادي إلى الراحة للأبد، بعد أن أصبح صديقه، وعرابه محسن، منذ يومين، نائبًا لرئيس الجمهورية، نائبًا عامًا للقائد الأعلى للقوات المسلحة، منذ شهر ونصف، وحاكمًا فعليًا لليمن، منذ الآن. سيكون مسموحًا لهادي توثيق قصص هروبه الغامضة منذ ثمانينيات القرن الماضي في كتاب يشكر في مقدمته المؤتمر الشعبي العام، وسيخص بالذكر "بن دغر"، على تعاونهما في إنجاحه!
الرئيس الأفضل، والأكثر، والأسرع هربًا، من بين كل رؤساء العالم، والذي يبدو مهتمًا بمغامراته، ومفاخرًا بها، أكثر من اهتمامه ببقائه رئيسًا، يقوم بأعمال أخرى أكثر أهمية من الهروب اليوم، وهي رواية القصص عن كيفية النفاذ نحو الضفة الآمنة في كل مرة تنعدم فيها المنافذ؛ بعد أن أصبح اليوم يمتلك خبرات تراكمية في الأمور المتعلقة بقضاء الحاجة وطرق تصريفها، وشرح كيفية أنها لا تَنّفُذ إلا من المكان الضيق!؟ أن أعظم ما صنعه، وما قد يصنعه هذا الرجل، على مدى تاريخه المليء بقصص الهروب، هو تقديم الدروس المجانية للجميع عن طرق (النفاذ) من المكان الضيق، في الوقت الضيق، والظرف الضيق؛ حتى وإن كان النفاذ قد جاء في كل مرة من مؤخرة أحدهم! لا يهم.
هروب الرئيس بكيلوجرامات "الشرعية الدستورية" الزائدة عن حدها من عدن، مثلما وصلها، سرًا، دون أن يشعر به أحد، ودون ترحاب، وبدون وداع، والأهم من ذلك، بغير أمنيات، إلا النفاذ ببدنه؛ في حين أننا كنا في عدن بحاجة إلى (تيس) واحد، وليس مئات الجزارين الذين جلبهم الرئيس لينشرهم على مداخل عدن وقصره. جلب هادي الجزارين ليخذلون عدن، ويسرقون القصر، ويفرون! قام بكل ذلك ليقول لنا أنه ليس سوى رئيس (مرؤوس)، أكثر مما يبدو عليه كونه رئيسًا، حينها توالت البديهيات التي تؤكد جميعها أن عدن، بل واليمن، لم يعد بإمكانهما العودة كما كانتا قبل هروبه.
يومها كتبت للحوثيين أيضًا بأنهم مخطئون وهم يعتقدون بأنهم يقاتلون الآن قوات هادي، وقلت لهم لن تجدوا أحدًا لتقاتلوه في عدن بالذات، سوى (أشرف) الرجال، أولئك الذين لا يلقون لهادي، ولا لشرعيته بالاً، بقدر ما هم مؤمنون بمدينتهم، وبما يصنعونه، ومستعدون لبذل أرواحهم دفاعًا عن ما يؤمنون به.. لم تمضي سوى ساعات قليلة قبل الوقوع في المحظور.
كانت القوات القادمة من الشمال، وأقصى الشمال، تتعامل مع الكارثة التاريخية بمزاج بائس، وبصورة تعيسة، فيما يواصل أفرادها التقدم كجيش من (الزومبي)، وخدع السعوديون وهادي، ومن معهم، اليمنيين للمرة الأولى حينما وظفوا الجنوب، بمن فيه، لضرب الشمال.
حينها سرب السعوديون هادي إلى عدن، ومن ثم قاموا بتسريب معلومات مفادها أن وزير دفاعهم الأمير محمد بن سلمان –وزير الدفاع وولي ولي عهد المملكة حاليًا- نقل قوله لنجل "صالح" في الرياض أن الجنوب "خط أحمر"، وله وضعه الخاص، ولا مجال لتجاوزه؛ دون الإفصاح عن سبب اللقاء الحقيقي، والطلبات التي كانت "الرياض" قد طلبتها في حينه من "أحمد علي"، فيما كانت قد اتخذت قرار الحرب أصلاً، ضد من اعتبرتهم خطرًا محدقًا يهدد أمنها القومي، وأمن المنطقة الإقليمي "الحوثيين".
كسب السعوديون "عاطفيًا" الملعب الأهم، الملعب الذي يعرفون بأنهم لن يخسروا فيه، وظل الجنوبيون يفسرون التصريحات السعودية بأنها اعترافات ضمنية بقضيتهم أخيرًا، وهو ما ظل الجنوبيون يمنون أنفسهم به طوال سنوات: أن تعترف دول الخليج، وبالذات السعودية بقضيتهم، وهي التي ظلت تردد منذ أنطلق الحراك الجنوبي بأنها "مع مصلحة اليمن وسيادته ووحدة أراضيه".. فكانت الخدعة الأولى الناجحة.
أما عن الثانية فقد كانت بسيطة، وساذجة للغاية، وهي أن أوهمت الجنوبيين، وكثير من الشماليين، بأنهم باتوا يمتلكون أخيرًا رئيسًا ذكيًا، لم يسبق لهم وأن امتلكوا مثله .. والمقصود الرئيس الذي لا يمكن للسعودية الحصول على أضعف منه في العالمين .. الرئيس الذي ظن البسطاء المخدوعين بأنه ومن خلال "ذكاءه" في طريقه لتفكيك قوى الشمال، ومكامن القوة فيه، وبالتالي، يحافظ عليهم وعلى بقاءه حاكمًا لهم دفعة واحدة، بينما الوقائع كانت تتحدث في صباح كل يوم أن الرئيس هادي هو الوحيد القادر على إعادة صياغة تلك القوى، وتسليمها البلد من جديد عند أقرب فرصة مواتية .. وعندما بدأ اليمنيون تدريجيًا، وبعد فوات الأوان، يوقنون بأن من يحكمهم هو (الظل) الذي لا يرافقهم طيلة اليوم! كانت الصدمة.
الرئيس الذي ظن الجنوبيون، وبالمناسبة، يظن كثير منهم حتى اللحظة، بأنه (داهية)، كان جسر العبور الأهم لتمزيق قوى الحراك، الممزقة أصلاً، بدلاً من تفكيكه لقوى الشمال، وكان من أبرز منجزاته أنه حول قوى الحراك الجنوبي بإشراف سعودي مباشر إلى أشبه ما تكون بالشركات المساهمة التي ينشغل مدراها التنفيذيين طوال الوقت بالسفر بين عواصم البلدان بحثًا عن الصفقات، جريًا وراء الربح، فكان أن ذهب بهم قبل غيرهم في ستين داهية!!
كنت قد تحدثت مبكرًا عن لعبة قذرة تخوضها السعودية في اليمن، شماله وجنوبه، وكنت مُصرًا، وما زلت، على قراءتي للأحداث بالطريقة التي وجدتها أقرب إلى عقلي، وليس جيبي، أو قلبي، فيما كان الجميع مشغولون بأربعة أمور لا خامس لها: الدفع بالناس إلى الموت عبر مكبرات صوت المساجد، رمي التهم، التخوين، وصناديق المال والسلاح.
كنت أمني نفسي لو أخبرتهم بالمزيد عن ذلك، لكنهم لم يكونوا يودوا سماع أي شيء، سوى صوت الرصاص، ولم يروني أمامهم لأن صورة (الملك) وعقاله على الورق النقدية السعودية من فئة (500 ريال) قد حجبت وجهي وقتذاك .. حجبته حتى عن أقرب الناس لي.
يتبقى طلب أخير فقط، قبل الختام، أتوجه به، وأطلبه ممن أتهمني عندما كنت أتحدث مرارًا، وتكرارًا، عن وضاعة أهداف السعودية وهادي، وخططهما القذرة، بأنني قد استهنت بدماء الشهداء، وبالحوثثة مرة، وبالعفششة مرات أخرى؛ أقول لكل أولئك: لقد أصبحتم مدينون اليوم لكل الشهداء، والجرحى، والمصابين، والمعتقلين، وكل من سقطوا في هذه الحرب القذرة باعتذار علني.
قلتها لكم في حينه، قبل أن تقولوها لأنفسكم الآن. أكاد أراكم عندما قلتها لكم: "هي لم تكن حربكم أيها البؤساء" .. أكاد أسمعكم الآن أيضًا تتمتمون: