ليست أغنية "مسيكين الجمل" من الأغاني المشهورة للفنان محمد سعد عبد الله، وعدم شهرتها هذه لا علاقة لها بموضوع الجودة والرداءة فأبو مشتاق لم يكتب ولم يلحن ولم يغن قط إلا ما هو جيد، لكن يبدو أن موضوع الأغنية قد كان سببا في عدم شهرتها، فالنص الشعري للأغنية يتناول ثنائية القاهر والمقهور والمستغِل والمستغَل وبمعنى آخر الظالم والمظلوم، والمستبِد والمستبَد عليه أو به ، ولكن في قالب غنائي جميل كما هي معظم أعمال فناننا العظيم محمد سعد عبد الله عليه رحمة الله ورضاه، وذلك من خلال توظيف المثل المشهور "جمل يعصر وجمل يأكل العصار" وهو من الأمثال الشعبية الشائعة التي تتعرض لمفهوم الظلم الاجتماعي الذي هو صنو المجتمعات غير العادلة وربما يكون هذا ما أخفى النص وجعل المتحكمين في الساحة الإعلامية والفنية يحرصون على تجاهل الأغنية إن لم يكونوا قد سعوا إلى إعدامها. تكمن عبقرية محمد سعد في هذا النص في توظيف المثل النثري بمفرداته اليومية المألوفة والبديهية والاعتيادية جدا وتحويله إلى لوحة غنائية أخاذة وممتعة بمضمون فلسفي ونقدي عميق وبمسحة إنسانية رفيعة وبصبغة فنية رائعة يعجب بها كل من يتذوق الفن ومعانيه. كعادته الشعرية يبتكر بن سعد بحرا شعريا جديدا خاصا به على تفعيلة "مفاعيلن" موزعة على مقطعين، اثنتان منها في صدر البيت. جمل قد له زمن صابر (مفاعيلن مفاعيلن) وثلاث في العجز ولا في أرضنا مثله جمل صبار (مفاعيلن مفاعيلن مفاعيلن) وهكذا حتى نهاية النص جمل ما قد تعب أو مل ولا مرة اشتكى من قسوة الأسفار نصيف الليل يسري بك ويتحمل هجير الشمس والأمطار يطيعك ما يقول لك لا وعمره ما سأل لا فين ذا المشوار هذا المقطع الأول من الأغنية كما قلنا ينطلق من المثل الشعبي "جمل يعصر وجمل يأكل العصار" لكن الفنان الخالد محمد سعد عبد الله، يتناول هذا الكائن الصبور معبرا عن ذلك الجلد وتلك الطاعة والانصياع وذلك الاستعداد الذي يبديه هذا الكائن في مختلف الظروف المناخية والزمانية دونما اعتراض أو حتجاج أو حتى سؤال عن كل ما يقوم به من وظائف. إلى هنا وموضوع القصيدة هو الجمل الطائع الهادئ الصبور الممتثل لأوامر صاحبه رغم كل ما في وظيفته من مشقات وقسوة ومعاناة، وهو ما يستمر في المقطع الثاني مكانه يتبعك دايم قضى عمره معك في خدمتك طيار يطيعك ما يقول لك لا وعمره ما سأل لا فين ذا المشور لكنه في المقطع التالي يذهب أكثر من تناول مدى الانصياع والامتثال الذي يبديه هذا الكائن تجاه صاحبه، إلى مشاطرته له ليس فقط رحلات السفر والتنقل وتحمل المشاق، بل إنه مشاركته الفرح والحزن والدفاع عنه عندما تقتضي الضرورة وتحدق الأخطار بصاحبه، لا بل أكثر من ذلك، إنه يذهب أبعد في توصيف الطاعة والانصياع الذان يبديهما الجمل تجاه صاحبه، فهو لا يقاسمه الصواب فقط بل ويشترك معه في الخطأ والباطل، من خلال إكمال ما يقوم به من أعمال مهما كانت غير سوية. معك وقت الفرح يفرح ووقت الجد عنك يدفع الأخطار معك في الحق والباطل إذا شافك تطبل يضرب المزمار وعادك فوق ذا خليت بياع القصب والقضب والمضار في المقطع التالي ينتقل الفنان من تناول الخدمات التي يقدمها الجمل وإخلاصه لصاحبه إلى معاناة الجمل وما يتحمله من مشقات ومظالم هي بمثابة جنايات يرتكبها صاحب هذا الجمل في حق جمله، فهو لم يكتف باستغلاله وظلمه وسوء استخدامه وتسخيره أسوأ تسخير، بل إنه يشرك معه آخرين في زيادة معاناة هذا الجمل المسكين، وقد رمز لهم الفنان الخالد محمد سعد ب"بياع القصب والقضب والمضار" وهم بلا شك أصحاب مصالح مشتركه مع الجمال وإلا لما سمح لهم بتسخير الجمل في أفعال "لا يرضى بها المسلم ولا الكفار" كما يقول بن سعد عليه رحمة الله. في هذا المقطع كرس الفنان المبدع محمد سعد مجموعة من المفردات المعبرة عن الاضطهاد الاستغلال والاستبداد مثل " ظلمته ظلم" ، "ذليته"، "التعب" ، "القهر"، " المرمطة" ، "السحب"، "الجرجار" وهو ما يشير إلى حجم القسوة التي يتعرض لها الجمل في علاقته بصاحبه وهذه الصورة هي تعبير عن اختلال الموازين في العلاقة بين طرفين أحدهما يقدم كل شيء ولا ينال إلا العناء والتعب والمذلة، والآخر لا يقدم شيء ويستولي على كل شيء، وهذا يبين أن بن سعد لم يكن يتناول إلا العلاقة المعوجة وغير المتكافئة بين طرفي المعادلة وهو ما يستدعي التصحيح وإعادة بناء المعادلة على النحو الذي يجعلها تستقيم وتستجيب لمنطق الأشياء وقانون الطبيعة وهو ما يتبين في المقاطع التالية. وعادك فوق ذا خليت بياع القصب والقضب والمضار يسوي بالجمل حاجات لا يرضى بها مسلم ولا كفار ظلمته ظلم ذليته ولا خليت له عزة ولا مقدار تعب ذاق التعب والقهر وذاق المرمطة والسحب والجرجار في المقطع التالي ينتقل فناننا العظيم إلى عرض جانب آخر من علاقة المستغِل والمستغل من خلال التحذير من المبالغة في مواصلة التعامل مع الجمل بالقسوةَ المعتادة فالمبالغة في الإساءة إلى الجمل ستخرجه من دائرة الصمت إلى الانفجار ولو دخل هذه المرحلة فإن قد يكف عن هدوئه وانصياعه وتقبل المعاناة وسيتحول إلى بركان محرق وإعصار مدمر، إذ إن طاقته التي تصنع ما تصنع من خيرات لصاحبه الذي أساء التعامل معه قد تتحول من طاقة إنتاج إلى طاقة تدمير وهي كفيل بخلط الأمور وإرباك الحياة وتحويلها إلى جحيم عل هذا المالك المستبد، وقد جاءت مفردات "بركان" ، "إعصار" ، "ينفجر" ، "باسل قوي" ، "يمز الأرض"، "يخلطها" للدلالة على ما يمتلك الجمل من طاقات إضافية غير تلك المرئية والتي بها يمكن أن يثأر لنفسه من مستغليها. وهو ساكت ولا كلمه قده با ينفجر بسك كفا زرزار دلا به شوف لو يغضب بلحظه ينفجر بركان بل إعصار جمل باسل قوي يقدر يمز الأرض بخلطها كما العشار ويمضي الفنان العظيم محمد سعد عبد الله باتجاه تصاعدي في استعراض ما يمكن للجمل المظلوم أن يفعله إذا ما تجاوزالظلم مداه، فالكائن الذي يتحمل آلام السفر ليلا ونهار صيفا وشتاء ويحمل الأثقال ويحمي صاحبه من الأخطار ويشاركه أفراحه، لكنه مع كل ذلك لا يلاقي منه إلا الظلم والقهر والتعب والمرمطة يستطيع أن يحول قدراته من أداة لخدمة ظالمه إلى وسيلة دفاع عن نفسه وحمايتها من الظلم والانتقام ممن ألحق به الأضرار والأذى. وشوفه لو غضب طبعا ما ينام الليل إلا بعد أخذ الثار جمل باسل قوي يقدر يمز الأرض يخلطها كما العشار ويستمر الفنان الخالد محمد سعد في تناول المهارات التي يتمتع بها الجمل والتي لا تقتصر على مجرد حمل الأثقال والسفر ليلا ونهارا، بل إنها تشمل ما لا يعلم به الكثيرون ،، هذه المهارات لن يستطيع المعاندون مهما تعددوا أن يواجهوها، وقد اختار فناننا العظيم عبارات توحي بتلك المهارات مثل "مدرب مسحة الفارة" و "يعرف سحبة المنشار" و "ينشن قبل ما يبدأ" و "يدق المطرقة في هامة المسمار" للتعبير عن قدرات الجمل في إتقان الصنعة التي ينوي الاتجاه لها وهي مقاومة الظلم ورفض القهر وإباء الضيم والانتقام من الطغاة والطغيان. ولا با يقدروا له ألف كراني ولا حتى مية نجار مدرب مسحة الفارة يبندها ويعرف سحبة المنشار ينشن قبل ما يبدأ يدق المطرقة في هامة المسمار مسيكين الجمل يعصر وغيره للأسف ذي يأكلوا العصار وقد اختار الفنان محمد سعد مقام الصبا لهذه الأغنية وهو مقام فيه من الحزن ما يتناسب وموضوع النص وقضيته المركزية، كما رصعه بمجموعة من الصور البلاغية الرائعة التي أضفت على النص الشعري قدرا من الجمالية والأناقة مثل "إذا شافك تطبل يضرب المزمار" للتعبير ليس فقط عن التكامل بل والطاعة والتبعية و"يسووا بالجمل حاجات لا يرضى بها مسلم ولا كفار" لتصور حجم وفظاعة المنكرات التي يتبعها الجمال مع جمله، و"يقدر يمز الأرض يخلطها" و "كما العشار" و"ولا با يقدروا له ألف كراني" و "مدرب مسحة الفارة " و "ويعرف سحبة المنشار" و"ينشن قبل ما يبدا" و "يدق المطرقة " و "هامة المسمار" وكلها صور جمالية تعبر عن القدرات الاستثنائية لدى الكائن موضوع النص، سواء كان جملا طبيعيا أو مجتمعا أم إنسانا فردا أو جماعة. وخلاصة القول أنه وفي مراحل معينة من مواجهة الظلم والقهر والكبت والاستبداد يلجأ المبدعون إلى إسقاط الظواهر والعلاقات بين الكائنات الطبيعية الاجتماعية للتهرب من المباشرة أولا ومن الملاحقة البوليسية ثانيا، واستخدام الرمز الحيواني أو حتى البشري للتعبير عن رفض الاستبداد ومقاومته والاستعداد لمواجهته وشب نار الحمية الوطنية والأخلاقية لدى أبناء الوطن للنضال من أجل استعادة التوازن الطبيعي للمجتمع وإنها الاختلال الوطني والاجتماعي وقد استطاع أبو مشتاق رحمه الله أن ينفذ إلى هذه المساحة عدة مرات من خلال العديد من أعماله الفنية الخالدة لعل أشهرها هذا العمل الجميل وقصيدته المشهور " قال بن سعد قلبي فوش يا ما صبر" و" با يذوق البرد من ضيع دفاه،" و "ما بيننا اسرار" وغيرها وهي أعمال يمكن التوقف عند بعضها مطولا لكن في مناسبات قادمة. رحم الله الفنان العظيم محمد سعد عبد الله وأسكنه فسيح جناته