كتب / أنيس راشد الشعيبي هل أبدأ من حيث ذلك النهر الذي تركته لنا وشرب منه العاطشون أم أبدأ من وسط بحر تملؤه الذكريات بحبر الحب والمعطيات.. أم أبدأ من ميلادك الذي ولدت فيه بعقد الثورات والإنتصارات الجسيمة، التي بدأت تتلاشى وميضها برائحة البارودة المضوية في أواخر الخمسينيات.. دعنا نختصر المسافة لكي لا تنزفُ الأقلام وتجف الصحف..ونخوض بنقاط السلَّمَ الذي كنتَ صاعداّ في منتصفه، سلّم النجمه الحمراء التي كنت من روّادها ونهلت علمك فيها..وبعدها كنت أول العاشقين في التسلّق نحو أغصان الشجر المثمرة وصعدت لتصل إلى حلمك الذي راودك لتنال شهادة البكلاريوس في كلية الشرطة بجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبيّة حين ذاك.. لم يصيبك الملل ولن نرى عليك أثر السفر،كنت كما بدأت ذلك المجاهد المثابر بعلمه وحنكته وحكمته يلحق العلم وينهال على العلوم يوماً بعد يوم لنيل مراده..لتحقق بعدها ماجستير العلوم السياسية والعسكرية من خارج الوطن لتثبت لنا أنك شربت لغة الروس بكل سهولة.. كنتَ خير من لبس درع اللغة، لكنكَ لم تكتفي، وعاهدت نفسك أن تشرب من وعاء الإنجليز لتصبح حينها مترجماً لها، ولا ننسى أنكَ كنت تغرف لغة الروس ، وتمضغُها مثل العربية بكل بساطة،ناهطك عن ذوق اللغة الألمانية.. عودتنا أن تكون دائماً في المرتبة الأولى حاصل على مرتبة الشرف والأول من بين الزملاء بدرجة الإمتياز منذ بداية تعليمك الابتدائي حتى تخرجك من الماجستير... كنت خير رواد القيادات التنظيمية بالجنوب والقيادات العسكرية خلال مرحلتك النضالية الشبابية.. خضت دورك المعتاد في شعبة الاستخبارات عدن، وعملت بما فيه الكفاية.. كان اعتقالك في 7/7 هو الخنجر الذي قطع دابر الحلم الذي راودك، لكنك لم تعد بعدها كما عاد البعض رغم الألم والتعب والمكابرة وخوض الصعاب والنقش على كل جدران الوطن، وطرق أبواب العلم من كل ناحية، إلا إنك عدت لنا إلى مسقط رأسك الشعيب/المضو في منتصف التسعينيات معلماً بارزاً وكتاباً مملواءً بالعلم والثقافة، يحمل بين دفتيه جواهر الكلمات المعطرة بالحب والإخلاق والتسامح والمحبة والألفة.. وذلك بعد أن سرِحت من عملك ونهبت اراضيك في عدن وكل ممتلكاتك ونهب مكتبك في عدن بكل مافيه من مستلزمات خاصة وغيرها.. بقيت مناضلاً بعد عودتك مع كل الشرفاء المعارضين للنظام اليمني القمعي الهمجي المتخلف..رغم اقصائك من كل حقوقك وتجريدك من أبسط الحقوق المستحقة.. رغم هذا وذاك رغم الخطوات التي تتبعتها والعثرات التي لحقت بها أثر البيروني،منذو صغرك حين كنّا نراك تغرف من قدح ابن الهيثم،وتستنشق نظريات الخوارزمي.. ليتني أمتلك قلم لا يجف كي أخطّ به ما تركتَ لنا من كلمات،حتى أدونها على صفحات السماء..وما أسعدنا حين عدت وولدت لنا من جديد معلماً..مربياً..أباً ووالداً.. شكراً لكَ أيها الوالد الطاهر بكل لغات الدُنيا، وبكل عبرات الثناء، وبكل كلمات الحب والتقدير،المفعمة برائحة الياسمين.. شكراً لكَ أيها الأب الفاضل/بإسم كل من علّمتَ ودرّستَ وربّيت ووجّهت، ونصحتَ وكافحتَ، وأبليتَ بلاءً حسنا. أيها العم الذي تعمم في قلوبنا: فضلك على الكل فاق الفضل، وأياديكم البيضاء على الجميع،لن تمحِها الرياح، ومعروفك المرسوم بنبرات العلم طوّق الأعناق، وعانق الآفاق... أنتَ أول من أعطى للكلمة حروفها وبذل المجهود لمن اعتثر،أنتَ من صال وجال على جسور العلم والمعرفة..كيف لا وطيب المعادن قد رأيناها حين تلألأت من طيب علمكَ وكرمكَ وإخلاقكَ.. كيف لا وقد رميت التكبّر على جانبات الطريق، ولبست درع الإحسان، وسلكت طريق التواضع.. أيها العميد الذي لم نرى يوماً يدك على عنقك: كيف نكافئكَ..؟ وكيف نرد جميلك الجميلَ..؟ وإحسانكَ المستحسن، ومعروفك المرهفَ على الكبير والصغير.. كيف تركتنا بين هذه الأمواج المتلاطمة بالجهل،ولم تقل أني راحل..؟ أنتَ الذي مرّ بكَ كلّ الأجيال، مرّ بكَ الطفل والشاب والمشيب..لم نعرفك إلا وجهاً للوجها،وقلماً يغرس بذورة على بستان البسطاء، ويسقيها من نفحات السخاء.. كيف لا نحبك وأنتَ الذي علّمتنا وربّيتنا ووجّهتنا وبنيت مستقبلاً في صمت وتواضع،لم نرى عليه أثر الإنهيار.. كلنا طلابك وتلاميذك وأبناءك، وما عليك وما حاسبت أحداً ولاعاتبت بشراً الآن أجركم سوف يؤدى عند الملك الحق يوم تؤدى الأمانات وترد الودائع: أنت الكنز الذي طلبناه يوماً، والخل الذي كنّا نصافيه..ليت لم نكن بعدكَ ولا كنّا..كنت الأمل فينا حيث ما كنّا. أيها النبراس الذي لم ينطفِ: لقد تخرّج على أيديكَ أُناس صاروا مشاهيراً وزمردا، ثم عقّوكم،اشتهروا وما اشتهرت، وانتفعوا وما انتفعتَ، علّمتَ أُناساً كانوا فقراء، ثمّ لمّا علّمتهم طلبوا الدنيا فحازوا الأموال والجاه والمناصب وبقيتَ أنتَ صامتاً متواضعاً صابراّ محتسباً.. الله يعلم كم وقفت مناضلاً وصابراً.. أيها المعلم الشامخ: كم من عُبّاد لقّنتهم كلماتٍ فغيّرت مجرى حياتهم،كم من مبدعٍين أعطيتهم القوس فرموا بها،كم من شاعرٍ فتحتم له القافية فنظّم القوافي،كم من رسّامين وضعتَ الريشة في أيدهم فرسموا لوحات عالمية هائمة بالحسن الذي أحسنته إليهم.. أيها الجبل الذي لم يتزحزح يوماً ما: أنتَ الذي في العالم لم يُعطْ حقه؛ لأن كل الجموع والصفوف والمستويات مرّوا بكَ ونهلوا من معينكَ وشربوا من نهركَ واستضاءوا بقمركَ ثم ارتحلوا...لكنك لم تسأل عن المقابل يوماً رغم المكابرة التي رسمتها تلك الإبتسامة دون خجل الألم الذي كان يراودك يوماً بعد يوم. أيها النجم الراحل: أنتَ الذي صبرت على جفاء أبنائنا وقلّة أدبهم وعقوقهم وشقاوتهم فربيت وهذّبت وأعدتَ لنا أبنائنا صالحين مؤدبين بارين.رغم الألم الذي أخفيته، كان ذلك لأجل من ربيته. أيها الضوء الذي أضاء ظلمة الصدور: كم من أميرٍ ووزيرٍ وخطيرٍ وشهير نهلوا من علمكَ واقتبسوا من تجاربك ونهلوا من معينكَ ثم مرّوا في الحياة يقطفون ثمارها وينهبون خيراتها وينثرون كنوزها وبقيتَ أنتَ قابع في مسكنك (ضمن خليك بالبيت) في فصلكَ تعلّم بلا أضواء ولا شهرة ولا ضجيج ولا لافتات. أيها الكتاب الذي أدفئنا بين دفتيه: كل قلم يخط وكل ريشة ترسم وكل مشرطٍ يجرح وكل قصيدة تُقال وكل كتابٍ يؤلّف وكل خطبة تُدبّج وكل مهرجان يُقام أنتَ بعد الله الّلبنة الأولى وأنتَ حجر الأساس وأنتَ البذرة النافعة التي بقيت في الأرض. أيها الرائع.. أيها المبدع أيها النابغة أيها الرمز ..رحمة الله تغشاك، لقد كنتَ أب وأخ وعم وصديق ورفيق ومعلم لمن حولك... أيها الشامخ يامن عكفت على طلب العلم: كل ساعة وحين ورسائلك يا والدي العزيز وأستاذي القدير تبللها وابل الدمع وتملى جفني الباكي أيها المخضرم صاحب العنوان الاعظم: سوف تبقى في قلوب عاشقيك،أنتَ الكتاب المصون والدّر المكنون لرمز العطاء والتواضع والسماحة والنبل والشهامة.. أيّها المعروف بكل صفات العرف: اعرفُ أساتذة علّمونا فارتحلنا وارتحل غيرنا إلى المدن، سافرنا وشرّقنا وغرّبنا وبقيت أنتَ بعد أن خذلوا الوطن.. وعدت من القمة إلى إلى أحضان الفصول التي بدأت منها أستاذاً في قريتك المضو/الشعيب يُعلّم متواضعاً خاشعاً متبتّلاً لا تريد إلا ما عند الله وكفى بجزاء ربك جزاء وعطاء. أيها الساعي على درب الكلمات المعطرة:أنت من بعث لنا الحياة من جديد، وكسرت قيود الحديد بعلمك وحلمك،وبراعتك،وجهدك المثابر، أنتَ الذي اضحكت الطفولة فينا وردمت ألم الوجع الذي عانينا،ورفعت رأيت الثقافة،بعلم رب العالمينا.. أيها المرحوم الراحل الباقي: جزاك الله خير الجزاء وتغمّدك برحمته واسبل عليك رضوانه وجعل الفلاح حليفك والفوز رفيقك والفردوس مسكنك وأسقاك من حوض نبيك وأنزلك نزل الصادقين ورفعك في علّيين. وصلَ الله وسلم على النبي المصطفى وآله وصحبه ومن وآلاه..