لم تكن حمّى الثورات العربية قد استشرت بعد حينما قال المسئول الإعلامي في التلفزيون الإسرائيلي ذات مرة " إن الإعلام العربي قد أسدى إلينا خدمة جليلة، حين حول ضحاياه إلى أرقام و حولنا ضحايانا إلى قصص إنسانية " , و إلا ّلكان صديقنا الإسرائيلي الآن أكثر امتناناً للإعلام العربي الرسمي الذي حوّل ثورات الإرادة المتفجرة في الكيان العربي اليوم , الى أجندات خبيثة و حوّل شهداءه إلى ثلة من المغرر بهم و حوّل شعوباً عريقة بأكملها إلى جماعات مندسة . و الكثير الكثير من العبث .. استدراك (1) : الرئيس اليمني "علي عبدالله صالح" كان قد نوّه في خطاب لم يسبقه له أحد , بأن هناك غرفة عمليات في تل أبيب تخطّط للثورات العربية و تدار من واشنطن , لكنه عاد و اعتذر عن تصريحه هذا في وقت لاحق ! لاهثة , أجدها الكلمة الأنسب و الأقدر على وصف الحال الإعلامية السائدة في بلدان الثورة العربية , فالحاصل حقاً أن الإعلام المصري يلهث الآن للحاق بركب الثورة بعدما أصبح بين ليلة و ضحاها نصير " الثورة العظيمة " أو كما علّق عليها بيان التلفزيون المصري ليوم السبت اللاحق لجمعة الرحيل مباشرةً ,و التلفزيون الليبي يلهث بجسارة مجاراةً لخزعبلات القذافي و محاكاةً لهلوساته الشهيرة , في حين يلهث الإعلام اليمني لتضليل البلاد و العباد بحكاوي من النوع الفريد المتفرد الذي لم و لن يرى لها تاريخ الإعلام العالمي و لا العقل البشري مثيلاً . فمن نوادر الشخوص الى تُراهات النصوص ,و يا قلبي لا تتعب قلبك .. استدراك (2) : كل الأفعال السياسية التي رافقها إعلام تضليلي على مر العصور انتهت بالفشل, التاريخ مليء بالشواهد : أمريكا و الحرب على فيتنام و من ثم العراق , النهاية الفجائعية عام 1945 لتشطير المانيا , ايطاليا الفاشية , اعلام مصر ما قبل 1967 و إبان الحرب , أتون الحرب الأهلية في لبنان .. الخ ! سيتعذّر علينا مقاربة الأداء الإعلامي لثورة اليمن بما حدث في تونس و مصر , الوضع هناك كان أكثر وضوحا ًو سلاسة من الوضع الحالي في اليمن , كالتالي : شعبٌ ثائرُ غير متحزّب في أغلبه يمتلك منافذ إعلامية تكنولوجية ,مستقلة , بسيطة , و متداولة بشكل أوسع و أوعى على شاكلة فيس بوك , تويتر, يوتيوب ,في مقابل إعلام رسمي متعسّف و مضلّل , معادلة انتجت حالة من التعاطف الإعلامي العالمي الذي سيّر الأمور بالطريقة التي آلت إليها .. في الديار اليمنية لا يمكن تطبيق المعادلة أعلاه بالمطلق , في البلد التي تمثل فيها المعارضة -بشخصياتها و ثرواتها و ثقلها الاجتماعي و وسائل إعلامها - دولة بداخل الدولة , و في أكثر المجتمعات المتبرّكة بالدين السياسي أو السياسة الدينية , من السهل أن تجد الانتماء للحزب العلاني و التيار الفلاني يتسامى ليتفوق على الانتماء لفكرة الوطن و المواطنة المدنية نفسها ,و قد يصبح الالتفاف على أي ثورة باسم مناهضة الإقصاء و شق الصف أسهل ما يمكن , كل ما يلزم فقط أن تجنّد هؤلاء المتحفّزين و تحولهم لطبول متحركة , و تحول عقولهم إلى مصانع لتعليب المبررات لكل تصرفات ولاه الأمر لديهم.. استدراك (3) : عدد مستخدمي الانترنت في اليمن في آخر إحصائية لعام 2010 مليون و ثلاثمائة ألف مستخدم ( 5% تقريبا من اجمالي عدد السكان ) , في مقابل 15 مليون مستخدم في مصر لنفس العام ( 20% تقريبا من اجمالي عدد السكان ) , و 3 مليون مستخدم في تونس ( 30 % تقريباً من إجمالي عدد السكان ) . في الحقيقة لا أكاد أصدق عيني كلما مررتُ- و لو بطريق الخطأ- على شاشة القناة الفضائية اليمنية الرسمية التي سمّاها أزلام النظام عبثاً بقناة " اليمن ", لم أكن أتوقع أبداً أن هذه القناة الساهية بتوابعها من قناة "يمانية" الميتة سريرياً منذ عشرين عاماً و "سبأ " المرفوع عنها القلم لسبب ما "ستدخل فلك الكرة الأرضية مجدداً بعدما كانت تدرو لعقود طويلة خارج إطار التاريخ و الجغرافيا بل حتى خارج مدارات "درب التبانة" نفسها . كان على هذه القنوات و هي تعود من عصور ما قبل التاريخ , أن تدرك أننا لم نعد نشبه اجدادنا " النياندرتاليين" كثيراً, فقد أصبحنا الآن في الكرة الأرضية نستخدم الكمبيوترات و الموبايلات و نرتاد الجامعات و نفتعل الثورات , و بات من الصعب جداً جداً خداعنا . و بما أن هناك توجه عام للتعامل مع ثورة التغيير الحالية في اليمن على أساس أنها صراع السلطة و المعارضة , نزاع القوة و القوة المعاكسة , تصادم الفعل و الفعل المضاد , أو بلغة لا تحتمل كثيراً اللف و الدوران " حرب الرأس للرأس " , التوجه الذي نتج عنه التعامل مع الوضع الثوري على أنه " أزمة سياسية " و التعامل مع مبادرات الخليج على أنها " مخارج الأزمة " , توقعت أننا - حسب المنطق البديهي لمعنى الحرب الاستراتيجي و التكتيكي- سنكون أمام وجه آخر أكثر ذكاءً و حنكةً للنظام الحاكم الحالي , فأي مناخ سياسي دولي قد يكون أنسب من الآن لكي يخرج لنا الأخير أجود أسلحته الإعلامية و أكثرها احترافاً ؟, و أي التجارب قد تكون أفيد له من التجربة المصرية و قبلها التونسية لكي يكون الفعل التضليلي بمثابة " حَلَق في ودان " الإعلام الرسمي اليوم ؟ توقعتُ أن قنواتنا الرسمية قد عادت من الغيب أن تستدرك ما صنعته في حق الانسان اليمني من خزي طوال سنوات و تفيه أبسط حقوقه على الأقل في التقليل من فداحة وجه الغباء الذي تظهره لنظام حكمه لمدة 33 عاماً , لكن أن تكن هذه الاستدراكات و الأسلحة على هيئة عبده الجندي و ياسر اليماني و عباس المساوي و مذيعي القنوات الرسمية الحاليين الباكين منهم و الضاحكين دون استثناء , فالمسألة فيها وجهة نظر لم أكن اتوقعها .. استدراك (4) : عبده الجندي " نائب وزير الإعلام اليمني و بوق النظام المرحلي بامتياز " , صاحب نصيب الأسد في النوادر الثورية و التصريحات العجائبية , انصحكم أعزائي القراء بربط أحزمة الأمان و أنتم تستمعون له فالأرجح أنكم ستحلقون على ارتفاعات عالية من التهريج و قد تواجهكم مطبات ضاحكة كثيرة ! لن أعلق كثيرا على الأداء الإعلامي للقنوات الخاصة حتى و إن حاولت أن تشير إلى أن في حنجرتها أحبال صوتية ماركة "ميادين التغيير " , سواء نجحت في المحاولة أو لا , تبقى هذه القنوات " دكاكين إعلامية " يمتلكها تجّار , و تُدار بعقلية المصلحة و التربّح قبل كل شيء و أي شيء , لا نملك أن نحاسبها على ما " تبيعه " من سلع لنا كمتلقين , لكننا بالتأكيد نملك الحق في منع احتكارها لسوق الإعلام الثوري و الحيلولة دون أن تتحول بفعل سلبيتنا إلى حناجر هذه الثورة المخنوفة بيد الشيوخ ! استدراك (5) : بالنسبة للكثيرين , الآن المعارضة لم تعد تُمثل الشعب و بالتالي فقنواتها الإعلامية لم تعد تُمثل الثورة , لم يعد لدينا صوت العرب , و الجزيرة لم تعد تفي بالغرض .. يقال أن هناك جهود لاطلاق قناة ليبرالية تمثل الصوت المستقل في الساحة , هذا شيء رائع ! , هناك جهود تبذل لمحو الامية الإلكترونية عن المعتصمين كبديل أسهل , هذا شيء أروع ! في كتابه "لماذا تذهب الأمم إلى الحرب " أشار المؤلف يوحنا استوسينجر إلى (ان كلا الطرفين سوف يدعون أن الأخلاق هي مبرر قتالهم ) , في الحال اليمني لا يمكن الجزم بما يستشعره الطرفان الآن فيما يخص الأخلاق و لكن يهمنا جميعاً أن نشاهد " إدعاء أخلاقي" للمبررات التي يصارعان لأجلها , يهمنا نحن الراغبون في التغيير المستقل و قد تحولنا على حين غرة إلى مراقبين للصراع الثنائي الأقطاب المدعو " ثورة " أن نتفرّج على عرض يحترم عقولنا و إلى اطروحات تحرج تعنّتنا سواء ملنا لجهة الفعل أو رد الفعل و سواء كنا مع المع أو ضد الضد , أليس مع حقنا أن تُمثل يمنيتنا كما يجب على أقل تقدير ؟ استدراك أخير : من المرهق كثيراً الآن أن أدخل في حل معضلة هل بيضة الإعلام هي التي تحولت إلى دجاجة الثورة أم أن دجاجة الثورة هي التي باضت إعلام الثورة , فالمشهد اليمني يشبه إلى حد بعيد ذلك المشهد المتكرر في الأفلام الذي يسلم فيه أحدهم هديته في صندوق كبير ليظل الآخر يخرج منه صندوقاً أصغر فأصغر فأصغر حتى يصل بعد عناء للمحتوى الذي غالبا ًما يكون ثميناً و مخالفاً للتوقعات , هكذا أتخيل الثورة !