المجتمع العدني بسيط في كل شي في حياته وفي أحلامه ,مهما كان فارق الطبقات الاجتماعية من غناء وفقر ومستوى ثقافي وفكري , جميعهم يشتركون في الطموحات التي لا تتعارض مع بعضها , حلمهم الدولة والنظام والقانون كمرجعية للعلاقات وضبط إيقاع الحياة , حلمهم الرخاء والسعادة والحياة المدنية الخالية من الصراعات , يجمعهم رفض العنف والتسيد والهيمنة . في صغري وعيت على حلم الحرية والاستقلال , أول شعار رددته برع برع يا استعمار , كنت مقتنع أن عدن كانت تُصرف على بريطانية , التي استعمرتنا لتنهب ثرواتنا , عشت فترة النضال وعاشرت المناضلين ومن هم اكبر سنا مني, كان وعدهم بمستقبل رغد , و قطف التفاح والعنب من الطاقة .
ما جمل يوم الاستقلال ومشاركتي في مقدمة المسيرات والحشود الجماهيرية المبتهلة , فرحا طامحا بالمستقبل الموعود , وبعد أشهر افتقدت لصديقي المناضل ,شوقا في حوار المستقبل ,وذهبت للبحث عنه في منزلهم الكائن في حارتنا , قال لي والده انه في السجن ,صدمت وغضبت وتغيرت ملامحي ,فقال والده كرد فعل , يأبني الجبهة القومية هي التي سيطرت على البلد وزجت بكل شركائها في النضال في السجون إلا من وآلاءها وحمل راياتها , فصرخت قائلا كان مناضلا يحب هذه الأرض ويعشق الحرية ويحلم بمستقبل واعد , لنقطف التفاح والعنب من الطاقة , قهقه ضاحكا وقال خير يأبني خير إنشاء الله سننتظر وفي أول زيارة له في السجن أخذك معي .
وبعد سنوات كان قد تفتح وعيي وانخرطت في النشاط الحزبي والسياسي , وعرفت مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية , وأننا مجرد مجتمع مجزئ بين مشروع وطني وأعداء لهذا المشروع , وان الشراكة وهم , فذهبت لوالد صديقي المسجون بسبب انتمائه السياسي , وعرضت علية زيارته , وحددنا الموعد , وذهبنا في موعدنا كان يحمل كيسا فيه فاكهة , قال انه اشتراها بواسطة سكرتير لجنة مركزية من شركة النصر كلفته الكثير , وبينما كنا جالسين منتظرين إحضار صديقي السجين , اطل علينا من نافذة من خلف القضبان , قبل السلام رفع والده عنقود من العنب وكم حبات من التفاح قائلا تفضل يا ولدي وتناول من هذه النافذة حلمك بقطف التفاح والعنب , موقف مؤثر أذرفت فيه الدموع بفقدان حلم بسيط لمجتمع بسيط , فقدان الحب والحرية والعدالة والوطن المستوعب للجميع , الكل يدرك أن التفاح والعنب لن يزرع في عدن , بل يزرع في المناطق الشمالية الأكثر تخلفا وظلما واضطهاد حينها , فلا معنى للتفاح والعنب دون حرية وعدالة ومساواة وحب وتآخي وتوافق واتفاق على وطن يستوعب الجميع .
وهكذا نبدد أحلامنا , الوحدة اليمنية حلم راود البسطاء بالتخلص من الأنظمة الشمولية والاستبداد والانغلاق , لنحقق طموحاتنا في نظام ديمقراطي فيه حرية وتعددية سياسية وفكرية ومساواة وتبادل سلمي للسلطة , فبدد المستبد أحلامنا , لتعارضها مع طموحاته وأطماعه وأنانيته وثقافته .
وكلما فقنا لنتذكر أحلامنا البسيطة , ونبحث عنها حتى نكاد أن نقطف ثمارها , يأتي مستبد وطامع وأناني , تغريه المادة والسلطة , فتتحول بندقيته لصدور البسطاء وهو يحمل أحلامهم ويردد شعارات طموحاتهم زيفا وبهتان , وحلمه وطموحه المتناقض كليا مع أحلامنا وطموحاتنا , فتتضح مساحة افقه الضيقة التي تستوعب منطقته وطائفته وعرقه وسلالته , وفكره المنحصر بالماضي وثاراته وضغائنه وأحقاده , ويبدأ يستخدمنا في تصفية خصوماته , كل هذا يتناقض كليا مع طموحاتنا وسعة أفقنا بوطن يستوعب الجميع , يتناقض مع تجاوزنا للماضي والتسامح والتصالح ,معاني فاقده لجوهرها في واقع يقوده التخلف والتعصب ,ونحن ضحايا طيشه وتهوره وانتقامه .
وهكذا تنتهك حقوقنا وتتقاذفنا أيادي الغدر والخيانة من مستبد لمستبد ومن طاغية لطاغية ومن طمع لأشد طمعا , فينهار وطن .