اسقاط المناطق في أيادي عناصر مسلحة على النحو الذي تعيشه أبين الجريحة, ليس جديدً على الجنوب فقد سبق للجبهة القومية القيام به العام 1967م, إذ لم يصل ما كان يعرف ب (اتحاد الجنوب العربي) إلى اليوم الذي حدد لإستقلاله عن التاج البريطاني في 30 نوفمبر, إلا وقد سقطت جميع سلطناته ومشيخاته وإماراته ال 22, حينها كانت الأداة واضحة: (الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل) وأيضاً كان الهدف واضح: إنهاء الإحتلال البريطاني وقيام نظام وطني مستقل, أسوة ببقية الأنظمة التي استقلت عن مترتبات اتفاقية سايكس- بيكو, أي أن عملية الإسقاط الأولى في زمن المد القومي الناصري تمت تحت شعار جامع, الإستقلال, وكان الهدف محل إجماع: إخراج القرار الوطني من حالة التبعية للأجنبي إلى الإرادة الوطنية الحرة. أي أن عملية الأحلال للسلطة من خلال الأسقاط, إن لم تتم بأدوات محلية وبهدف محلي مستمد من تراب الوطن, فلن يكتب لها النجاح, ولن تكون سوى ممارسة آنية للقوة المأجورة في مواطن الضعف المؤقت, وسواءاً كان هذا الضعف طبيعي أو مفبرك فهو إلى زوال, وما يؤكد بأن ما يحدث في أبين الصابرة, صناعة غير (أبينية) وغير (جنوبية) هو هروب أبناء أبين بلا شيء دون حياتهم, إلى المحافظات الجنوبية الأخرى, فالظلم بين وصارخ في هروب المستغيث زد على ذلك بأن الهروب استفتاء على رفض شعبي وعلى إدانه شاملة لهكذا سلوك سياسي دموي.
هروب مما يعتمل في عتمة أجنده غامضة الأداة والهدف, بل ومتهمة بممارسة ابتزاز لصالح طرف سياسي بعينه, وإن كان المعلن هو الإنتصار للشريعة, أمر كهذا مردود عليه, فإذا لم يكن هناك خروج واضح عن الكتاب والسنة, يستدعي كل هذا الجور الذي يمحق بالمحافظة وبحياة مئات الآلاف من مواطنيها العزل الأبرياء جوعاً وتشريداً , فما الداعي إذاً لهذا ال (انتصار) الذي لم يتضح من تطبيقاته على الأرض, سوى قانون الحرابة, واستبدال إسم ثاني أكبر مدن المحافظة من (جعار) إلى (وقار), أما الجمعة فما زالت هي الجمعة والخطبة ما زالت هي الخطبة ولا يبدو خلاف يستدعي توقير ال (جهاد) في أبين دون غيرها من من المحافظات.
ف (أنصار الشريعة) تسمية عائمة في الهواء لم يكن لها وجود سابق على أرض الواقع تستمد منه شرعيتها, والأخبار تتواتر عن عناصر تدير أبين ناهيك عن كونها غير (أبينية) فهي غير جنوبية, وأياً كانت جوامعها الأيديلوجية فأمرها المعلن لا يبرر لها هذه ال (مقاولة) في إحتلال السلطة المحلية وتجييرها لصالح المجهول المعلوم, فالهدف في ظاهره ديني, والدين منه براء, لأن الإسلام دين حق, لا يرهب العزل ولا يخيفهم أو يهجرهم من مساكنهم أو أوطانهم, يقول جلّى وعلّى: (وآمنهم من خوف), وباطن الأمر سياسي بل ونفعي محظ, يتاجر بمعانات السكان, والمؤمن بالحق يبرأ بدينه من هكذا أداء.
كما وان الفكرة أياها, فشلت في محافظات شمالية, فعندما حاولت تلك الجماعة بنموذجها ال (أبيني) الإنتقال شمالاً, تم مواجهتها بعنف وقوة, كما حدث مؤخراً لمحاولة الشيخ الذهب في مدينة رداع التي أنتهت بمقتله, حينها اصطخبوا وتعالت الأصوات من كل حدب وصوب, محذرين من نية مبيته تستهدف رداع, إذ تداعا الساسة والقبائل والعسكر مطالبين بضرورة الحفاظ على أهل رداع ومعالم رداع, وتحديداً قلعة (العامرية) التاريخية, أما ما يحدث لمحافظة أبين, من دمار وقتل ونهب وتبديد لكل معالمها التاريخية ومقدراتها الزراعية وبنيتها التحتية, فلا يحرك لهم ساكناً .
فسكان أبين شأنهم شأن سكان رداع في الحقوق والواجبات, وليسو من عبيد عبس, أو من كفار مكة, حتى يتركوا لوحدهم يكابدون المسغبة, فالأمر فاضح بإرادة الإنتقام من الجنوب, واللافت في التغطية الإعلامية ان (قناة الجزيرة ) كانت تؤكد: بأن رداع في جنوب اليمن, لست أدري ان كانت التسريبات الرسمية هي من أوقعت قناة محترمة مثل الجزيرة في هذا الحول الجهوي؟ أم أن الهدف من وراء اقحام الجنوب في كل ما له صله بالإرهاب والإرهابيين هدف مشترك يبرر مثل هذا الخلط الجغرافي؟
يشعر المرء بالتقزز من عملية التراشق بالتهم المتضاربة عن المسئولية, وكأن أبين سقطت بيد (التتار) القادمين من منغوليا, أو بيد (كوماندوس) جاءو من فلسطينالمحتلة, فالثابت أن السقوط تم بالتفاهم على أهداف معينة, ولملمة الموضوع لن تتم إلا إذا تحققت تلك الأهداف, وأن من يدعون الإنتصار للشريعة, بعلمهم أو بغير علمهم, ليسو سوى أدوات استثمار سياسي شمالي على أرض الجنوب, قد يواجهون مصير (أبو الحسن المحضار) الذي أعدموه من خلال المحكمة بعد أن تحققت أهداف المقاولة المتفق عليها دون علمه!
مقاولة كهذه لا يستبعد انتقالها إلى محافظات جنوبية أخرى دون الشمالية طبعاً, فالدمار يراد له أن يلحق بالجنوب فقط, والقصف المشترك مع قوات المارينز وسلاح الجو الأمريكي الذي يدّمر محافظة أبين براً, بحراً وجواً يأتي في هذا السياق, ومرشح له الإنتقال إلى مناطق أخرى, ولحج المديرية وليس المحافظة أقرب الساحات لهكذا عبث داخلي بإسم الشريعة, ولهكذا دمار عن بعد بإسم محاربة الإرهاب, فالمغرم جنوبي والمغنم شمالي.
أما المقابل المباشر فهو الصاق تهمة الإرهاب بالحراك السلمي الجنوبي, وهي تهمة, يستثمرها كل من موقعة السياسي, فصالح يبتز بها الأطراف الراعية وتحديداً الأمريكان والإصلاح يبتز من خلالها الجنوبيين وتحديداً قواعد الحراك الجنوبي السلمي بهدف إخضاعهم لخيمته, ومن الجهة الأخرى تؤمن تدميراً لبنية الجنوب التحتية بشكل يعوّق عملية النهوض بأعباء فك الإرتباط أن أضطر إليه مفراً, وهنا الإستثمار مشترك صالحي إصلاحي, وفوق هذا وذاك الساحة الجنوبية نموذجية لكل منهما في استعراض قدرات من قبيل القتل والنهب والفبركة, يبتزان بها بعضهما البعض, بهدف تجهيز الأرضية المناسبة لكل منهما لمرحلة ما بعد عبدربه.