قال الموسيقار الكبير محمد عبدالوهاب، انه كان يحرص على الذهاب لسماع ام كلثوم، منذ منتصف الثلث الاول من القرن العشرين، وهي تغني في كشك بحديقة (حديقة الازبكية)، وقال معلقا على انه كان صوتها اعجوبة من الاعاجيب. ولم يفطن عبدالوهاب، الى ان ما جعل من ام كلثوم مطربة عظيمة ليس فقط صوتها العبقري والاعجازي، واختياراتها الرائعة للكلمات والالحان ونطقها السليم للحروف، وثقافتها، وغير ذلك من عناصر شخصيتها الفنية لكن وبالاضافة لكل ذلك، عنصرا في غاية الاهمية، هو الحضور الفني الطاغب، وهي تغني على خشبة المسرح. وهذا الحضور الفني لا علاقة له بالصوت والموهبة عموما، لانه هبة ربانية مستقلة، يحظى بها البعض ولا يحظى بها البعض الآخر، وكما هو موجود عند بعض الفنانين، موجود عند بعض الخطباء وبعض الشعراء، فقد تجد خطيبا يلقى على الجمهور خطبة عصماء، فلا تؤثر فيه الا قليلا لأن الخطيب لا يتمتع بالحضور القوي وهو يلقي خطبته، فظله ثقيل، ووجهه جامد لا يوحي بمعاني الخطبة، ويتكلف الالقاء، وقد يبدو عابسا يشعر بالضجر، وهكذا الشعراء، فقد تجد شاعرا فحلا، لا يتقبله الجمهور وهو يسمعه قصيدته الرائعة وجها لوجه، بينما تجد شاعرا اقل شاعرية، يفوز دائما برضا واعجاب الجمهور، والسبب حضوره الفني المؤثر. كانت اسمهان الاطرش ترفض الغناء امام الجمهور لحضورها الفني الضعيف، واضطر عبدالوهاب لاعتزال الغناء في الحفلات، منتصف الخمسينات، عندما ايقن ان حضوره الفني ضعيف، وهزمته ام كلثوم في مجال الغناء بحضورها الفني المتوهج دائما، ومن الجمهور من يقول انه تعجبه اغاني فريد الاطرش ، اذا سمعها من الراديو، لان فريد كان حضوره الفني ثقيلا على الجمهور، بينما كان لعبدالحليم حضور فني قوي ومؤثر على الجمهور، وهو يغني على خشبة المسرح رغم صوته المحدود وجسده الهزيل، لكنه كان يفوز بإعجاب الجمهور لمجرد وقوفه على خشبة المسرح، بوجهه الحزين وضحكاته وابتسامته الموحية بالرومانسية، ثم تعبيرات وجهه المعبرة عن كل معاني الاغنية. وهذا ما لم يكن متوفرا لمحرم فؤاد مثلا. وكثير من جمهور ام كلثوم كان يقول ان الاستماع لها ليس كافيا بل، فيحرص على مشاهدتها وهي تغني، حينها يكتمل الاستمتاع، على الرغم من ان ام كلثوم لم تغير كثيرا، وطوال ستين عاما، من طريقة وقوفها على خشبة المسرح، الوقوف بحزم وثبات، وكأنها زعيم يلقي خطبة، ثم الثوب المحتشم والمنديل، لكن لام حركات برأسها ويديها وابتسامات واحيانا ضحكات، ثم حركة قوية للجسم، للخلف والامام واليمين واليسار، كل ذلك جعل مشاهدتها، وهي تغني، متعة مستقلة، وكان ظهورها على خشبة المسرح يؤدي الى هدوء الجمهور وحل خلافاته، مثل الخلاف على الكراسي( خلاص.. لقد ظهرت الست). هذا الحضور القوي والممتع لم يتوفر عند فيروز، وقد قال لي احدهم، وقد كان مسؤولا كبيرا بإذاعة عدن، انه يفقد جزءا من استمتاعه بأغنيات فيروز، اذا شاهدها وهي تغني. وكانت المطربة سعاد محمد، وكذا المطربة نازك ونور الهدى وغيرهن من المطربات الكبار، بأصواتهن القوية، فتغلبت عليهن شهرزاد بحضورها الفني القوي، ونجاة الصغيرة صاحبة حضور فني قوي، رغم صوتها الضعيف وجسمها الصغير وفي بلادنا كان لرجاء باسودان حضور قوي على خشبة المسرح، اقوى من الحضور الفني لكل من جايلها من المطربات، فحققت نجاحا كبيرا، وكان لاحمد قاسم والمرشدي ومحمد سعد وغيرهم، حضور فني اقوى من الحضور الفني لخليل محمد خليل وبامدهف واسكندر ثابت، وكان للعزاني وعوض احمد وانور مبارك، ثم ايهاب خليل وعصام خليدي وغيرهم حضور قوي، وسوف يزعل مني اصحاب الحضور الضعيف لو ذكرت عددا آخر من اسماءهم. فقد زعلوا مني من قبل. ولعل من اسباب ضعف الحضور الفني عند المطرب، اعتقاده انه ليس وسيما، او انه غير واثق بنفسه وبمقدرته الفنية، او يكون مصابا بحالة نفسية ويشعر انه غير مقبول عند الجمهور، او الخحل او حالة انطواء، وغير ذلك.