لقد تفاقمت ظاهرة التسول مع مصاحبتها لحالات النزوح المستمرة والتدهور الاقتصادي جرّاء الحرب الطويلة التي لا يزال سعيرها مشتعل في مناطق مختلفة وافرازاتها السلبية المزمنة والمحطمة للآمال قد مهدت طريق معتم مشحون بالمخاطر والاهوال، وقد اضافت ظاهرة التسول الكثيفة وصورتها المثيرة للكرب التي تحاصر المواطن في كل مكان يذهب إليه أكان سوق أو منتزه حتى أثناء وقوفه في الشارع، يجد شكاويهم عديدة ونظرات توسلهم تحز في النفس، وغيرهم من يقف بعد كل صلاة في الجامع ويقدم خطبة بصورة درامية مثيرة للشفقة والحزن فالانفعال حاد والدموع منهمرة، لا يستطيع أحد أن يجزم ويحدد أياً من تلك المشاهد غير واقعية وصادقة فيفترض فيهم جميعاً حسن النية ويعيش لحظات تأثر يعتصره فيها الحزن على حالة المتسول مع إنه لن تجد انساناً بغير عبء من الهموم، ولا يستبعد ان يكون بين المصليين من يشاطر ذلك المتسول ظروفه أو يقارب منها ولكن نفسه العزيزة تمنعه وترفض الوقوف في مكانه مهما بلغت تعقيدات مشاكله وتصاعدت الأنواء وعجز عن حملها ومع ذلك يقف أمامها منتصباً حابساً دموعه مقاوماً لضعف حيلته. ظاهرة التسول رغم انتشارها المزعج وأضرارها العديدة على المجتمع لم تكن وليدة الحرب بل انتشرت منذ سنوات طويلة خلت، ولكن تعقيدات الوضع الحالي زاد في تفاقمها فضعف السلطة كان العامل المساعد على ظهور كثير من الآفات وخروجها من مخابئها، ومنها ظاهرة التسول التي اتخذها البعض حرفة لكسب قوته دون عناء. من هنا ينبغي التمييز بين الاحسان الذي كتبه الله عز وجل على كل شيء وبين التصدق على المتسول، فالتسول ليس بالضرورة أن يكون المعبر السليم الذي يقود لتقديم الصدقات فربما هناك معابر أسلم وأضمن لتلك الصدقات . لو نظرنا إلى المعونات الضخمة التي تبعثها الدول المانحة لبلادنا من أجل إغاثة منكوبي الحرب والتي يمكن لها أن تسد حاجة المتسولين وتغلق باب التسول بالكامل، في حالة قيام السلطة فرض رقابة صارمة على توزيعها للمحتاجين ولم تسمح بنهب معظمها! وفي مثل هذه الحالة سيخجل المتسول من ادعاء الحاجة والعوز وستتبدد المواقف المخجلة لاستثارة العواطف واستدرار الشفقة، وإن حدث ذلك بالفعل ووصلت تلك المعونات لمستحقيها، وهو مجرد حلم، فأنني استطيع ان اربط موقف المتسول عندنا بموقف عاطل عن العمل فرنسي، فموقفه لازلت اتذّكره منذ ان كنت ادرس اللغة الفرنسية في مدينة فيشي الفرنسية حين رأيت متسول ولأول مرة بعد انقضاء خمسة أشهر على مكوثي في هذه المدينة، حيث كان واقفاً أمام بوابة سوبر ماركت ضخم، وبجانبه كلب ضخم كالحصان وفي الجانب الآخر لوحة مكتوب عليها هذه العبارة : أنا عاطل عن العمل فلا استطيع رعاية كلبي. ومن المعروف في فرنسا أن العاطل عن العمل يستلم راتب محدود يكفيه للعيش بكرامة، لذلك خجل من الاستجداء لشخصه واتخذ من الكلب حجة لحل ضائقة مالية مؤقتة ألمت به !.